في هذا الحوار، حملنا بعض المخاوف الرائجة حول الأزمة المائية إلى الأكاديمي المصري المتخصص في مجال الأمن المائي د. خيرى عمر، الذي ذهب إلى تصفية المخاوف والحديث بلغة علمية صارمة بعيداً عن «بروبجاندا» الإعلام، واضعاً يده على أبرز الإشكاليات والمخرج الأمثل منها، كما تحدث عن حقيقة الفزاعة من الكيان الصهيوني وحقيقة الأطماع وواقعيتها وقضايا أخرى.
* بداية، ما معنى الأمن المائي؟
– الأمن المائي هو توفير الحد الأدنى لكفاية الفرد لمدة عام كامل، وهناك معيار دولي لهذا الحد، والمعيار الثاني هو أن تتوافر للدولة وللمجتمع موارد مائية على المدى الطويل، بحيث لا تحدث اضطرابات بسبب نقص في الغذاء أو الشح المائي.
وطبقاً للمؤشرات الدولية، فإن أي بلد يقل فيه متوسط نصيب الفرد من المياه سنوياً عن 1000 – 2000 متر مكعب يعتبر بلداً يعاني من ندرة مائية، وبناء على ذلك؛ فإن 13 بلداً عربياً تقع ضمن فئة البلدان ذات الندرة المائية.
* ما تقييمكم لمستوى الأمن المائي في العالم العربي والإسلامي؟
– الوطن العربي والإسلامي فيه تنوع في مستويات الكفاية من المصادر المائية؛ فهناك مناطق تعاني من الندرة، ومناطق مطيرة يزداد فيها نصيب الفرد من المياه وتقوم عليها الزراعة، ولكن الإشكاليات الرئيسة تلاحق المناطق التي لا يوجد بها أنهار.
فالأمور مستقرة في جبال الأطلس على سبيل المثال حيث الأمطار، وأيضاً في شمال ليبيا بمنطقة طرابلس وبنغازي، وسورية، وهذه المناطق مناظرة لمناطق الري في بلاد الأنهار.
تهدد حالة التصحر المتزايدة الأمن المائي كذلك سواء في جنوب الجزائر والمغرب وليبيا بجانب الحزام الصحراوي؛ وهو ما دفع السكان إلى الانتقال إلى شمال البلاد أو إلى أوروبا.
وتظهر الأزمة جلية في منطقة الجزيرة العربية والخليج؛ فهناك أمطار غير دورية في السعودية والكويت، ولا يتم استغلال سقوط الأمطار بشكل يوفر مياهاً في وقت لاحق.
ويعتبر انخفاض منسوب الأنهار كذلك إشكالية، وهو ما يعاني منه الأردن، على سبيل المثال، حيث يوجد انخفاض في نهر الأردن بشكل لافت.
* بعض المحللين يتحدثون عن خطر الكيان الصهيوني على الأمن المائي العربي، هل تتفق مع ذلك؟
– أرى أن «إسرائيل» لا تشكل أي تهديد على أمننا العربي المائي، حيث لا تعاني هي بالأصل من ندرة المياه المتدفقة، وقامت باستخدام التكنولوجيا في تعظيم الفائدة من مياه الأمطار، وهذا الفارق بينها وبين دول الطوق المحيط بها، فهؤلاء لم يهتموا بالأمن المائي إلا متأخراً لحساب قضايا أخرى.
وما يقال على نطاق رائج من أن لدولة الاحتلال سياسات مائية تطمع في نهر النيل عبر أنفاق وترع لا أميل إلى جديته، فحتى لو كان هناك مثل هذا فهناك قانون دولي يمكن اللجوء إليه، وهناك اتفاقيات أفريقية تخص نهر النيل لا تعطي الحق منفرداً لأحد ليتصرف مع «إسرائيل» كما يحلو له، وحتى ما يقال عن دورها في بناء «سد النهضة»، هو عندي لا أصل له، فإثيوبيا خاضت تجربة البناء بصعوبة وباكتتاب داخلي، و«إسرائيل» لم تقدم لها ما يروج لها إعلامياً، ولكنها تحاول إثارة فزاعة بحضورها لا أكثر ولا أقل.
* ولكن حديث المخاطر من بناء «سد النهضة» تداولتها الحكومات المصرية المتعاقبة عقب ثورة يناير، والبعض تحدث عن مخطط صهيوني واضح في ذلك، أليس كذلك؟
– دعنا نبدأ الحديث من البداية الصحيحة، لتكوين حقيقة واضحة، فهناك نظريتان تحكمان بناء السد ومستقبله:
الأولى: أنه سوف يؤثر على مجرى نهر النيل الأزرق للمرة الأولى في تاريخ النهر، والحديث عن توليد طاقة فقط وعدم اللجوء إلى الاستخدامات الزراعية قد لا يضر مصر، ولكن إذا أقيمت المناطق الزراعية في هذه المنطقة فمصر ستتأثر بشكل كبير، ولا شك.
المنظور الثاني في النظر للسد هو أن جيولوجيا المنطقة التي أقيم فيها هذا السد تقوم على تربة بركانية لا تتحمل القدرة المتولدة عن التخزين، خاصة تخزين ما يقرب من 75 مليار طن متري من المياه، ما قد يؤدي إلى اهتزازات في التربة وزلازل تدفع إلى انهيار السد أصلاً، ومن هنا فالمخاوف المثارة جرى تضخيمها في ظل غياب الخبراء، ولذلك فإثيوبيا تضع في اعتبارها هذه المسألة، ولن تغامر بتخزين يضرها خاصة في منطقة الجنوب الإثيوبي، وسيضر غيرها.
ومن هنا، فقد ظهرت في الفترة الأخيرة مشكلات فنية ناتجة عن الفساد في البناء، وهو ما قيل بالتزامن مع اغتيال المشرف على بناء السد، وهو ما يدفعنا إلى التروي قبل الحديث عن مخاطر تضر قبل الانتهاء من المشروع، في ظل التأكيد الإثيوبي على توليد الطاقة فقط وعدم الاتجاه إلى مشروعات زراعية، وهو ما تنظر له مصر بدقة في الفترات الماضية بعد تسليم الملف لخبراء الري والأمن الخارجي.
وأرى أن الرواية المصرية للسد بسبب الحكومات المتلاحقة والمتقاربة غير متماسكة لاختلاف نظم الحكم، التي لم تستعِن بمدرسة الري المصرية العريقة حتى عام 2013م، فقد غابت «الري» والأجهزة الخارجية عن المشهد في عام 2012م، وحضر الساسة في ظل تصارع الدولة العميقة مع الحكومة الجديدة للدكتور محمد مرسي، ولكن تم تدارك الأمر بعد ذلك بتسليم الملف لخبراء الري وأجهزة الأمن الخارجية بعد أن استقر الأمر للدولة العميقة في مصر، حتى تم وضع إطار قانوني عام 2015م، وهو إجراء متأخر ولا شك، حيث استغلت إثيوبيا ذلك في خلق واقع جديد، أوجد خوفاً مصرياً واضحاً من المستقبل، ولكن مع الحديث عن الإدارة المشتركة كضمانة بدأت المخاوف تقل رويداً رويداً، من التحكم في مسألة الأضرار من عدمه.
ومن هنا أرى أن الأيادي «الإسرائيلية» بعيدة عن العبث بالأمن المائي المصري من هذه الناحية، في ظل دخول السلطة المصرية في اتفاقيات ومفاوضات ما زالت مستمرة مع وجود نظام جديد في إثيوبيا يرفع شعارات مكافحة الفساد ويحاول بناء علاقات جديدة مع دول الجوار.
كما أرى أن هناك عوائق جديدة قد تحُـول دون إنهاء المشروع مع ظهور النظام الإثيوبي الجديد الذي يركز على أولويات مختلفة، بجانب الوضع المتوتر في السودان الذي قد يمنح مصر فرصة في المفاوضات أو قد يطيح بها في حال تغير النظام بنظام جديد له موقف آخر في مسألة الأمن المائي السوداني، وعلى كل فالأفضل الترقب والانتظار.
*ما أبرز ملامح القلق في ملف الأمن المائي في المحيط الإسلامي؟
– خارطة العالم الإسلامي ممتدة، ولكن منطقة الصحراء الكبرى التي توجد بها موريتانيا والنيجر تعاني من نقص في المياه، وبحيرة تشاد في انخفاض الآن، والوارد من نهر الكاميرون في تناقص، وكذلك الأنهار في الصومال.
ولكن ما عدا ذلك، فهناك دول كماليزيا وإندونيسيا وباكستان والجنوب الروسي في المناطق المطيرة التي تستغل الثلوج في الربيع والصيف نصيب الفرد فيها من المياه وافر، ولا تشعر بأزمة في هذا السياق الذي نتحدث فيه.
* في ضوء ما سبق، هل الحديث عن الحروب القادمة المرتبطة بمسألة الأمن المائي مقبول وممكن؟!
– لا أرى في الأفق أي حروب تتصل بمسألة الأمن المائي، والخلافات الدائرة في الماضي القريب والحاضر تعاملت معها الدول بمفاوضات واتفاقيات ولجوء للتحكيم في بعض الحالات، والتوافق في حالات أخرى، ولذلك لم تلجأ الدول للحروب.
ولكنَّ هناك احتمالاً ضعيفاً في نشوب حرب في حال تعقد المفاوضات في حوض النيل، وعدم التوصل لتوافق إيجابي يحمي حقوق الجميع، وهنا يظل الاحتمال قائماً ولو بصورة صغيرة، لكن لا يمكن نفيه بطبيعة الحال.
* هل يمكن أن نقدم وصفة علاج لحماية المنطقة من الشح المائي وتوابعه؟!
– خارطة العلاج تستلزم تضافر كل الجهود في البلدان الفقيرة مائياً، وفي مقدمتها التوعية باستخدام القيم الثقافية الدينية بطريقة تتصدى للأزمة بشكلها الحقيقي دون الاقتصار على توعية المواطن فقط وترك الإسراف في المناطق الزراعية والصناعية دون توجيه.
وأرى أن القيم الإسلامية غنية بعناصر إيجابية في الحد من الأخطار المحتملة إذا تم استغلالها على النحو الأمثل.
وبجانب البعد القيمي التوعوي، فالتكنولوجيا يجب أن تحضر بسرعة للمشهد، ويكفي ما مضى من تجاهل لهذا البعد الذي تفوقت فيه دولة الاحتلال الصهيوني، واستغلت به كل قطرة مطر تنزل على الأراضي المحتلة، وبالتالي يجب الاستفادة القصوى من الأمطار التي تتساقط بكثافة في سيناء والأطلسي والشمال الأفريقي والاستثمار فيه بمشاريع تمنع تحول نعمة الأمطار إلى نقمة كما نرى، ولتركيا وماليزيا تجارب ناجحة في ذلك المضمار يجب الاستفادة منهما.