تئن كثير من الأسر تحت مطرقة الضغوط طيلة العام، فمع ارتفاع عدد ساعات العمل بين الآباء، وتوتر الأبناء بسبب الدراسة والاختبارات؛ تبدو الأسرة في حالة من الهشاشة بفعل فجوات واسعة بين أطرافها، وفي بعض الأسر يعيش كل فرد في جزيرة منعزلة يعاني من الضغط أو الملل، وتسود حالة الفتور مع تلك الحياة النمطية الباردة.
هذه الحالة من الانشغال الدائم -الحقيقي أو المتوهم- التي يمارسها الجميع، بالإضافة إلى عدم وجود مساحات كافية من الوقت للتواصل؛ تجعل الحاجة حقيقية وماسة للحصول على بعض الوقت للراحة والاسترخاء وتجديد النشاط والقضاء على روتين الحياة التقليدي، وصناعة مساحة من الحوار والتفاعل بين الجميع، ولا أفضل من السفر والسياحة الأسرية لتحقيق هذه الأهداف.
الكلام المقتضب الذي يصل أحياناً لحد الخرس الزوجي مشكلة يعاني منها كثير من البيوت، فلكلٍّ عالمه المنفصل الذي يحياه، والمشتركات قليلة حد الندرة، ومن هنا تأتي فكرة السفر كفكرة مثيرة وممتعة للجميع، وتصنع فرصة جيدة للحوار من أجل التخطيط لهذا السفر؛ بدءاً من اختيار مكان مناسب يحقق الهدف، مروراً بترتيبات الرحلة والميزانية المتاحة لها، انتهاء بتحديد موعدها، لا شك أنه حوار سيتسم بالحيوية والدفء الذي يذيب كثيراً من الجليد المتراكم في العلاقات.
صناعة الذكريات
من أجمل الأهداف التي تتحقق في الرحلة السياحية بعد المتعة والاسترخاء والتجديد واكتشاف عوالم أخرى هو صناعة ذكريات بين الزوجين أو بينهما وبين الأولاد، هذه الصناعة تمثل «احتياطياً عاطفياً» بالغ الأهمية يستمر لباقي العام وربما ما بعده من أعوام، وهو مادة خصبة وحيوية لتبادل الحوار، وبمقدار الحيوية والتفاعل والإثارة في الرحلة بقدر ما تتضمن من ذكريات جميلة، لذلك ينبغي للأسرة أثناء تخطيطها للرحلة السياحية أن تنتقي المكان بعناية، بحيث يرضي أذواق الجميع، وتنتقي الأنشطة التي تعتمد على المشاركة، مع أهمية وضع وقت لنزهة خاصة أو قضاء أمسية مميزة بين الزوجين كي تحقق الرحلة الهدف منها، ولا شك أن الانسجام بين الزوجين سينعكس على الجميع.
إذا كان الحصول على رحلة سياحية يحقق كثيراً من الفوائد للأسرة -كما أوضحنا- فلا ينبغي أن نجعل من بعض الظروف عوائق تمنع تحقيق هذا الهدف المهم؛ لذلك ينبغي أن نتحلى بالمرونة ونحن نفكر بالخيارات المتاحة؛ فالبعض يستطيع التخطيط لرحلة سياحية خارج البلاد بسهولة بالغة، ولكن البعض لا يستطيع ذلك سواء بسبب الظروف المادية أو ظروف العمل أو غير ذلك، فلا ينبغي التقيد بنموذج جامد ثابت للاسترشاد به، ولا بد من التحلي بالمرونة في التفكير التي ستؤدي لمرونة ووفرة الخيارات المتاحة، وفي داخل كل بلد أماكن هادئة بالغة الجمال ومنتجعات راقية ومدن ألعاب للأطفال.
بل يمكن الحصول على عدة جولات سياحية صغيرة باستخدام رحلات اليوم الواحد ورحلات عطلة نهاية الأسبوع، بحيث يتحقق الهدف من الترفيه والإشباع النفسي للجميع.
هل السياحة ترفيه فقط؟
يتصور البعض خطأ أن السياحة مرادفة لكلمة الترفيه، خاصة في سياق السياحة الأسرية، إلا أن هذا التفكير بالغ الضيق، فتستطيع الأسرة أن تمارس صوراً راقية من السياحة الثقافية وتستمتع أيضاً؛ فكثير من الأماكن الأثرية بالغة الجمال والسحر بل ومجهزة للسياحة بما تشمل من ملحقات، سيستمتع بها الأولاد كثيراً، خاصة عندما يشاهدون على الواقع تلك الأماكن التي تمت دراستها بشكل جامد ومجرد في الكتب، وسينبهرون حقاً عندما يعايشونها ويشعرون بها نابضة حية أمامهم.
ومن الممكن المزج بين أكثر من نوع من السياحة، فبينما يستمتع الأولاد بالذهاب للتسوق من المولات الضخمة يمكن المرور على المكتبات الموجودة في هذه المولات لشراء كتب تقع في مجال اهتمامهم، ومزج التثقيف بالترفيه.
وفي هذا الصدد، لا بد من التفكير في التخييم ورحلات السفاري والصيد المتنوعة، مع التفكير في احتياطات الأمان بشكل فعال حتى تناسب الأسرة.
أيضاً من الأفكار الفعالة التي تمارسها كثير من الأسر الذهاب لرحلة عمرة جماعية كأسرة وزيارة المسجد النبوي، ولعل هذه هي أجمل الرحلات على الإطلاق، وغالباً ما ينصح بها الخبراء والاستشاريون الأسريون؛ حيث تحقق -بالإضافة لأجر العمرة- تماسكاً فورياً، وتذوب الخلافات الزوجية، وتقارب وجهات النظر، وتمنح الأسرة نفحات روحانية عالية.
سياحة حلال
عندما تخطط الأسرة المسلمة للقيام برحلة سياحية فلا بد أن يكون الضابط الأساسي لها أن تكون سياحة حلال، فلا خير يرتجى من رحلة سياحية تعج بالمحرمات؛ السياحة الحلال يبارك الله أثرها وتحقق المرجو منها.
وتشمل السياحة الحلال اختيار المكان بدقة، فإذا كان السفر للخارج يتم البحث عن المكان الذي لا يغلب فيه الحرام ولا يُضيَّق فيه على الحلال.
وإذا كانت الرحلة للشاطئ فلا بد من البحث عن شواطئ هادئة توفر الخصوصية، أو بها مسابح خاصة تستطيع فيها النساء أن تستمتع أيضاً.
وفي الحقيقة تنشط كثير من الجهات والمؤسسات السياحية المتخصصة في السياحة الحلال، وينبغي البحث عن مثل هذه الجهات والاستفادة من العروض التي تقدمها.
فتستطيع الأسرة المسلمة احتساب عدد من النوايا في رحلتها السياحية، بحيث تحظى بالمتعة والسعادة، وأيضاً بالأجر من رب العالمين، ومن ذلك انتقاء بلد مسلم سياحي لقضاء الرحلة، فهو -بالإضافة للمتعة والترفيه وقلة مساحة المحرمات، وتوافر الأكل الحلال بها- دعم لاقتصاد بلد مسلم قد تمثل السياحة رافداً أساسياً لاقتصاده، وتوفر فرص عمل للملايين من أبنائه؛ وبالتالي تحتسب الأسرة ما تنفق في رحلتها في دعم إخوة لهم في الدين.
وإذا كان السفر لبلد غير مسلم فعلى الأسرة أن تضع في نياتها المتعددة أن تكون بحسن سلوكها نموذجاً عملياً للدعوة للإسلام.
وينبغي أن يتحدث الآباء مع الأولاد في هذه النوايا واحتسابها، وكيف يمكن ممارسة هذا السلوك من الناحية العملية حتى يبارك الله في هذه الرحلة؛ فتكون الفائدة مضاعفة؛ إثراء للحوار من جهة وتفعيلاً للدور التربوي من جهة ثانية.
أسوة حسنة
كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من يفهم في طبيعة النفس البشرية وحاجتها للترفيه والتجديد وكسر روتين الحياة، وعلى الرغم من كل مسؤولياته كان يستثمر الفرص المتاحة للقيام برحلة أسرية، ولو على هامش العمل والجهاد؛ فكان صلى الله عليه وسلم «إذا خرج أقرع بين نسائه» (صحيح البخاري)، وكان يسير ليلاً يتحدث مع من خرجت معه؛ بل كان الأمر يتجاوز السفر والسير ليلاً إلى المشاركة في أنشطة ترفيهية تفاعلية؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أَحْمل اللَّحمَ ولم أبدن، فقال للناس: «تقدَّمُوا»، فتقدَّمُوا، ثم قال لي: «تعالي حتى أُسابِقَك»، فسابقتُه فسبقتُه، فسكتَ عني حتى إذا حملتُ اللَّحمَ وبدنتُ ونسيتُ، خرجتُ معه في بعض أَسْفاره، فقال للناس: «تقدَّمُوا»، فتقدَّمُوا، ثمَّ قال: «تعالي حتَّى أسابِقَك»، فسابقتُه فسبقَنِي، فجعل يضحك وهو يقول: «هذه بتلك» (رواه أحمد).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يمارس السياحة الترفيهية مع أم المؤمنين عائشة، فيخرج بها خارج البلاد، وتشاهد معه الأماكن المختلفة، ثم لا يكتفي بالمشاهدة وتغيير الأجواء وما يحققه ذلك من متعة وتجديد للنفسية والحياة ومساحات التأمل التي تخلقها أجواء السفر، بل يريد لها أن تعيش أجواء الترفيه الحقيقية من خلال مسابقة للجري يتشاركان فيها، وعندما تسنح فرصة أخرى تتكرر التجربة الممزوجة بأجواء المرح والمداعبة؛ لذلك فعلى المسلم أن ينوي الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يخرج وأسرته للسياحة، ويحتسب كل ما في الرحلة من نشاط وترفيه مباح، ويضع على رأس أولوياته إشباع حاجة الزوجة والأولاد للترفيه وكسر رتابة الحياة.