أرشد الله تعالى أن الضعف والفقر فتنة، وقد تصل إلى هذه الفتنة إلى الكفر، ولهذا اقتضت حكمته ألا يجعل نعيم الدنيا منصرفاً إلى الكافرين وحدهم مع شدة حقارة الدنيا عليه، وذلك أنهم لو حازوها لهاجرت إليهم القلوب لانبهارها بهم فتابعتهم على كفرهم، قال تعالى: (وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ {33} وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ {34} وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ {35}) (الزخرف).
تجيء معنى الآية الواردة في مقدمة الموضوع أن الله أشرك المؤمنين والكافرين في نعيم الدنيا، بينما جعل نعيم الآخرة للمتقين وحدهم، ولو أنه تعالى جعل نعيم الدنيا للكافرين وحدهم لهاجرت النفوس إلى الكفر؛ لما ترى عندهم من التفوق والغنى والنعيم؛ فلولا هذا لجعل الله للكافرين سقوف بيوتهم وأبوابهم ومصاعدهم وأسرتهم من الذهب والفضة.
وهذا أمر مطرد في طبائع البشر، نراه ونلمسه صباح مساء، وقد اشتهرت مقولة ابن خلدون في أن «المغلوب مولع بتقليد الغالب في زيّه وشعاره ونحلته وسائر عوائده»، وقد صرنا الآن في حال نرى فيها شباب الأمة يتساقطون في الإلحاد والإباحية والعدمية والأفكار التي لم تتشربها نفوسهم عبر السجالات العقلية أو البحوث العلمية، وإنما غُزِيت نفوسهم بهذه الأفكار لأنها جاءت من الغالب المتفوق الغربي.
سجالات المرأة المتكررة
وإذا طالعنا المشهد الفكري الإسلامي نفسه، فسنجده سجالات متكررة في الحديث عن حقوق المرأة ومساواتها بالرجل واستقلاليتها وحريتها في نفسها وحقها في العمل والسفر بدون محرم، ونصيبها في الإرث، ولماذا هو النصف، أو مسائل الحرية التي تقصد أساساً حرية الردة أو الزنا أو اللواط، أو مسائل دور الدين في الحياة، وضرورة أن يبقى في المسجد لا شأن له بالسياسة أو الاقتصاد أو العلوم!
هذه المسائل وأشباهها إنما هي مناطق التناقض بين الإسلام والحضارة الغربية المتفوقة، ولذلك تدور المحاكمات حولها، ولو أن الدنيا دالت وانقلبت موازين القوى فصعدت الصين أو الهند لاختلفت طبيعة الأفكار الوافدة، وطبيعة المسائل التي يجري السجال حولها، وعندها ستجد المسلمين يستهلكون جهودهم في مسائل أخرى؛ فربما هوجم الإسلام لأنه لا يجيز للمرأة أن تحرق نفسها بعد زوجها، فهذا هو معنى الوفاء الأكيد لذكراه! أو هوجم لأنه يبيح للمرأة أن تطلب الطلاق ولو بغير ضرر مباشر لمجرد أنها لا تستطيع الحياة مع هذا الزوج، أو حتى هوجم لأنه يتعامل مع البقرة كحيوان من الحيوانات، أو لأنه يَعِد المؤمنين بالملذات الحسية في الآخرة ويبيح لهم في هذه الدنيا التمتع في الدنيا بالشهوات الجسدية من المأكل والمشرب.. إلخ! إن القصف المتواصل للثقافة الهندية المتفوقة في ذلك الحين سيجعل هذه المسائل موضع المحاكمة.
ولما كان الضعف فتنة وجَّه الله تعالى عباده إلى احتياز القوة وإعدادها فقال: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ} (الأنفال: 60)، واللطيف في الآية هو توجيهها النظر إلى أن ثمة «آخرين» ليسوا من الأعداء يتأثرون هم أيضاً بحال القوة والضعف، فإذا كنتَ قوياً ارتدعوا، وإذا كنتَ ضعيفاً كانوا مع العدو! فالضعيف مطمع متاح مباح ليس للذي ينهشه فحسب، بل إن نهشه حلم يراود هذا الآخر الجالس بعيداً كذلك.
فتنة الفقر
ولما كان الفقر فتنة استعاذ النبي بربه منه، وجعله قريناً للكفر، فكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، وأعوذ بك من عذاب القبر»، وهذا الدعاء العجيب الجامع قد أرَّقني زمناً، فإنه دعاء قصير مسجوع، ولم أفهم لماذا ذكر النبي الكفر مع الفقر مع عذاب القبر، حاشاه صلى الله عليه وسلم أن يكون قاله طلباً للسجع والجرس، حتى هداني الله إلى أن هذا الدعاء القصير إنما جمع الاستعاذة من الذل في كل أطوار الإنسان، فالإنسان في الدنيا ذله الفقر، والإنسان في الآخرة ذله الكفر، والإنسان في البرزخ ذله عذاب القبر.. فهكذا استعاذ النبي من ذل الدنيا وذل القبر وذل الآخرة، وصلى الله على من أوتي جوامع الكلم.
وفي أول معركة كبرى بين المسلمين وأعدائهم من قريش، أنعم الله عليهم بنعمة عجيبة ذكرها لهم، أنعم عليهم بأنه قَلَّلَ الكافرين في أعينهم، فهذا ما جعلهم أجرأ عليهم وأقوى في قتالهم، ولو أن المسلمين شعروا بحجم الفارق لوقع بينهم التنازع واضطراب قرار المواجهة، كما أنه سبحانه وتعالى قلَّل المؤمنين في أعين الكافرين ليسوقهم إلى الهزيمة والفخ، قال تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ الله سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمُورُ (44)} (الأنفال).
وإذا نظرنا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأردنا أن نضع نقاطاً على المراحل الفاصلة التي كثر فيها المسلمون، فسنجد أنها كانت عقب الانتصارات، فقد انتهى المشركون في المدينة بعد غزوة «بدر»، وصارت المدينة إما مسلماً أو منافقاً أو يهودياً، ومن بعد «بدر» صار عقد التحالفات مع القبائل والأنحاء أهون وأيسر، ثم جاءت «الحديبية» التي هي بمثابة الاعتراف الدولي بدولة المسلمين؛ فكانت فتحاً مبيناً، حتى أسلم في العامين اللذَيْن بعدها مثلُ الذين أسلموا من أول الإسلام، وفي هذا الفتح نزل قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (الحديد: 10)، ثم كان «فتح مكة»، فكان الفتح الأعظم وبه دخل الناس في دين الله أفواجاً، وكان العام التالي للفتح هو عام الوفود الذي أقبلت فيه وفود قبائل العرب تدخل الإسلام وتبايع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك الفتح نزل قوله تعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً (2)} (النصر).
ولعله لهذا اقتضت سُنة الله تعالى أن يُبعث الأنبياء في أشراف أقوامهم، فيكون هذا من أسباب كمالهم البشري، إذ لو بُعِث الأنبياء في الضعفاء لاستنكفت أكثر النفوس عن الاستماع لهم واتباعهم، بل ولقُتِلوا قبل أن يبلغوا رسالتهم، وقد قصَّ تعالى علينا بعضاً من هذا عن قوم صالح عليه السلام الذين كانوا يخشون من قومه فدبروا لمؤامرة سرية لقتله ولإعلان براءتهم أمام عشيرته من دمه، هذا مع أنهم الزعماء التسعة الرؤساء الذين يملكون زمام الإفساد، {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (النمل: 49)، وكذلك قص الله علينا مشهداً مماثلاً عن قوم شعيب الذين {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} (هود: 91).
وضرب الله مثلاً بحالة وحيدة لنبي افتقد للقوة وهو لوط عليه السلام، فكان في محنة يستغيث فيها ولا يجد ناصراً ويرجو أن لو كان له ركن متين؛ {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (هود: 80)، وعندئذ جاءه المدد، فكشف ضيوفه عن أنهم ملائكة من عند الله، وأنه لن يمسه منهم سوء، ولقد ذَكر النبي هذا الموقف ثم قال: «رحم الله لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد!»، وفي حديث آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما بعث الله من بعده من نبي إلا في ثروة من قومه».
ولقد كانت حماية عبدالمطلب وبني هاشم لنبينا صلى الله عليه وسلم هي المانع الأكبر الذي أطال عمر الدعوة في مكة عشر سنوات، وعجز ملأ قريش أن يقتلوا النبي أو يؤذوه لقوة عصبته، وهذه هي السنوات العشر الذهبية التي استطاعت فيها الدعوة أن تجمع أنصاراً، وأن توجد لنفسها أرضاً أخرى تنتقل إليها، ولولا هذا لكان قتل النبي هيناً على ملأ قريش كقتلهم ياسراً، وسمية، فعلوها ولم يطرف لهم جفن! ولم يخرج النبي إلى الهجرة إلا بعد استيثاق العباس من نصرة أهل المدينة له، وكان النبي في حراسة دائمة ليلاً ونهاراً حتى نزل قول الله تعالى: {وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67)، ولهذا قال ابن خلدون في هذا المعنى: وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم؟!
إن المسلم المخلص -لا سيما في أوقات الاستضعاف- يحمل همّاً عظيماً ومسؤولية كبرى، إن عليه أن يكافح حتى لا يكون فقيراً أو ضعيفاً، وأن يرفع الفقر والضعف عن أمته ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ويكون ذلك منه على مستوى نفسه وأهله وجيرانه، كما يكون على مستوى قومه وبلده وأمته، وكل إنسان أدرى بما يستطيعه.
إن إنقاذ الناس من الفقر والضعف هو في الحقيقة إنقاذ لهم من الكفر، وكفى بذلك أجراً عظيماً!
_________________
(*) باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية