لم يعد هناك شك في أن النظام الذي أقامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون معه، بالمدينة -إذا نظر إليه من وجهة مظهره العملي، وقيس بمقاييس السياسة في العصر الحديث- يمكن أن يوصف بأنه نظام «سياسي» بكل ما تؤديه هذه الكلمة من معنى، وهذا لا يمنع أن ينعت في الوقت نفسه بأنه «ديني» إذا كانت وجهة الاعتبار النظر إلى أهدافه ودوافعه، والأساس المعنوي الذي يرتكز عليه؛ وذلك لأن حقيقة الإسلام شاملة؛ تجمع بين شؤون الناحيتين المادية والروحية، وتتناول أعمال الإنسان في حياتيه الدنيوية والأخروية، بل إن فلسفته عامة تمزج بين الأمرين، ولا تعترف بالتمييز بينهما، إلا من حيث اختلاف وجهة النظر.
أما في ذاتيتهما فيؤلفان -كما يقول د. محمد ضياء الدين الريس- وحدة منسقة، وهما متلازمان لا يمكن أن يتصور انفصال أحدهما عن الآخر، وهي حقيقة واضحة لا تحتاج إلى برهان، وهي مؤيدة من التاريخ، وكانت عقيدة المسلمين في كل العصور السالفة، وقد بدأ جمهور المستشرقين يدركها مع عدم قربهم من بيئة الإسلام، ومع ذلك فهناك نفر من أبناء الإسلام ممن ينعتون أنفسهم بأنهم «مجدّدون» يجاهرون بأفكارهم لهذه الحقيقة، ويدّعون أن الإسلام ليس إلا مجرد «دعوة دينية»، من أمثال علي عبدالرازق -القاضي الشرعي السابق بالمنصورة، ثم وزير الأوقاف فيما بعد- في كتابه الذي نشره عام 1925م بعنوان «الإسلام وأصول الحكم»، ومن أقوال هؤلاء المجددين: «الدين شيء، والسياسة شيء آخر» (ص19-20).
آراء المستشرقين:
هذه بعض أقوال علماء الاستشراق صريحة قاطعة، تؤكد علاقة الإسلام بالسياسة، وارتباط الدين بالدولة، مع ملاحظة أنهم على صلة وثيقة بالعصر، وأكثر قدرة على استعمال أساليب البحث الخفية، واستخدام الطرق العلمية:
1 – يقول «د. فيتز جيرالد»: «ليس الإسلام ديناً فحسب، ولكنه نظام سياسي أيضاً، ومع أنه ظهر في العهد الأخير بعض أفراد من المسلمين، ممن يصفون أنفسهم بأنهم «عصريون» يحاولون الفصل بين الناحيتين، فإن صرح التفكير الإسلامي كله قد بني على أساس أن الجانبين متلازمان، لا يمكن أن يفصل أحدهما عن الآخر».
2 – ويقول «أ. نللينو»: «لقد أسس محمد في وقت واحد ديناً (Religion)، ودولة (State)، وكانت حدودهما متطابقة طوال حياته.
3 – ويقول «د. شاخت»: «على أن الإسلام يعني أكثر من دين، إنه يمثل أيضاً نظريات قانونية وسياسية، وجملة القول: إنه نظام كامل من الثقافة يشمل الدين والدولة معاً».
4 – ويقول «أ. ستروثمان»: «الإسلام ظاهرة دينية، سياسية، إذ إن مؤسسه كان نبياً، وكان سياسياً حكيماً، أو رجل دولة».
5 – ويقول «أ. ماكدونالد»: «هنا -أي في المدينة- تكونت الدولة الإسلامية الأولى، ووضعت المبادئ الأساسية للقانون الإسلامي».
6 – ويقول «السير توماس أرنولد»: «كان النبي، في الوقت نفسه، رئيساً للدين ورئيساً للدولة».
7 – ويقول «أ. جب»: «عندئذ صار واضحاً أن الإسلام لم يكن مجرد عقائد دينية فردية، وإنما استوجب إقامة مجتمع مستقل، له أسلوبه المعين في الحكم، وله قوانينه وأنظمته الخاصة به».
مجتمع سياسي ودولة:
هذه الأقوال تؤيدها وقائع التاريخ، فقد تكوّن إثر ظهور الدعوة الإسلامية «مجتمع» جديد له ذاتية مستقلة تميزه عن غيره، ويعترف بقانون واحد، وتسير حياته وفقاً لنظام واحد، ويهدف إلى غايات مشتركة، وبين أفراده وشائج قوية من الجنس واللغة والدين والشعور العام بالتضامن، ومثل هذا المجتمع الذي تتوافر فيه تلك العناصر هو الذي يقال: إنه «دولة»، أو يوصف بأنه «سياسي».
وهذا المجتمع بدأ حياته الفعلية، وأخذ يؤدي وظائفه، ويحول المبادئ النظرية إلى أعمال، بعد أن استكمل حريته وسيادته، وضم إليه عناصر جديدة، ووجد له موطناً.
لقد ولدت الدولة الإسلامية في وضح النهار بعد بيعتي العقبة؛ حيث تعدّان عقداً تاريخياً يختلف عن العقد الاجتماعي الذي تحدث عنه «روسو» وأمثاله، حيث كان يعدّ وهماً أو خيالاً، أما عقد البيعتين التاريخي فحقيقة يعرفها الناس جميعاً، تمّ فيه الاتفاق بين إرادات إنسانية حرة وأفكار واعية ناضجة من أجل تحقيق رسالة سامية.
ولدت الدولة الإسلامية في وضح النهار، وتم تكوّنها في ضوء التاريخ، وقد أدت هذه الدولة وظائفها السياسية، من إعداد الأداة لتنفيذ العدالة وتنظيم الدفاع، وبث التعليم، وجباية المال، وعقد المعاهدات.. ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك.
حق الاجتهاد:
أما وقد ولدت الدولة وتكونت وأدت وظائفها؛ فقد تحقق شرط وجود التفكير السياسي الذي ستشيد فوقه كل النظريات والمذاهب المتنوعة.
وقد ضمن الإسلام وجود مبدأ حرية التفكير للفرد تفكيراً مستقلاً، والأخذ بالنتائج التي يهديه إليها بحثه غير ملتفت إلا صوت ضميره، وهو ما يعرف في كتب الفقه والأصول باسم «الاجتهاد»، وهو مبدأ انفرد به الإسلام، لم يسبق إليه ولم يلحق به أيضاً إلا بعد مضي عهود طويلة، بعد نحو ألف عام في مطالع عهد النهضة الأوروبية حين بدأت حركة الإصلاح الديني، ونهوض «لوثر» وأتباعه ينادون بحق الفرد في فهم النصوص المأثورة، وتكوين حكم لنفسه، ولم يكن رجال الدين من قبل يسمحون للفرد بهذا الحق أبداً.
حق الاجتهاد سيكون له كبير الخطر في كل ميادين البحث، كما سيكون كبير الخطر في تطور الأفكار وفي توجيه الحوادث على مسرح التاريخ، وفي مجال السياسة -بصفة خاصة- سيكون الروح المحركة أو القوة الدافعة إلى نشوء المذاهب والنظريات والآراء.
الإمامة:
كانت مسألة تفويض الأمر للأمة ناتجة عن حق الاجتهاد، حيث لم يكن في الإسلام ما يعرف لدى الأوروبيين بـ«الدوجما» (Dogmas)؛ أي المعتقدات الجامدة، ورأى المتكلمون والفقهاء أن مسألة الإمامة تدخل في اختصاص علم الفقه لا علم الكلام، وهي من الفروع التي هي محل الاجتهاد.
اجتماع السقيفة:
بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجد المسلمون أنفسهم ورثوا دولة؛ أي نظاماً سياسياً، وأقر لكل فرد منهم بحق التفكير والبحث في شؤون هذه الدولة، ولم تُفرض عليهم قيود تمنعهم من استعمال هذا الحق والبلوغ به إلى غايته.
كان اجتماع السقيفة أشبه بجمعية وطنية أو تأسيسية بحثت في أمور أمة لأجيال عديدة لاحقة، وتضع لها دستوراً يكون أساساً لحياتها في المستقبل، وكانت أكبر نتيجة لهذا الاجتماع قيام «نظام الخلافة» الذي بقي بصورة وأخرى إلى القرن العشرين الميلادي (الثالث عشر الهجري).
وفي هذا الاجتماع، يمكن تلخيص أهم النظريات التي عرضت فيه:
أولها: نظرية الدفاع عن دعوى الأنصار في استحقاقهم للخلافة على أساس أنهم آووا ونصروا ودافعوا عن الإسلام بأنفسهم وأموالهم، وهم أصحاب الدار.
وثانيها: نظرية حق المهاجرين، وأولويتهم في استحقاق الخلافة على أساس أنهم أول من عبَدَ الله في الأرض، وهم أولياء الرسول وعشيرته، وصبروا معه على شدة الأذى والتكذيب.. ثم هناك تنويه بفضل قريش «الأئمة من قريش».
وثالثها: نظرية اقتسام السيادة أو تعدد الإمرة التي دعا إليها الحباب بن المنذر؛ «منا أمير.. ومنكم أمير».
ولكن المجتمعين في النهاية أقروا مبدأ خطيراً؛ هو أن اختيار رئيس الجماعة أو الدولة إنما هو بالبيعة؛ أي بالانتخاب، ونبذوا جميعاً بسلوكهم الفعلي مبدأ «الوراثة».
شهادة طه حسين:
طه حسين ليس من علماء الدين، ويعرف الثقافة الغربية وعناصرها جيداً، وتبرز شهادته هنا لتقدم لمن ينكرون العلاقة بين الدين والسياسة درساً علمياً مفيداً، يقول: «وما رأيك في أن الإنسانية لم تستطع إلى الآن، على ما جربت من تجارب، وبلغت من رقي، وعلى ما بلغت من فنون الحكم، وصور الحكومات، أن تنشئ نظاماً سياسياً يتحقق فيه العدل السياسي والاجتماعي بين الناس؛ على النحو الذي كان أبو بكر، وعمر، يريدان أن يحققاه..» (الفتنة الكبرى1، عثمان، ص6).
دولة عالمية:
لقد تحولت الحكومة الإسلامية في عهد النبوة -كما يقول د. محمد ضياء الدين الريس- من دولة مدنية محصورة بمدينة إلى دولة عالمية، لا نقول إمبراطورية، لأن هذا الوصف يتضمن معانيَ من القهر والقوة والجبروت (قديماً كانت هناك دولة مدينة، مثل: أثينا، إسبرطة، روما..).
ومن المعروف أن العهود المثالية قصيرة الأمد، والأجيال التالية تختلف عن الجيل الأول الذي نهض حاملاً أعباء الدعوة الجديدة، مستمسكاً بالمثل العليا، مجاهداً في سبيل تحقيقها.
ولأن الأجيال التالية ليست لها خصائص الجيل الأول، وتعيش تحولات جديدة في الظروف الاجتماعية والطبيعة البشرية، فإن النتائج تتغير تبعاً لتغير المقدمات.