لقد حفلت كتب التاريخ والسير بأمثلة من الشائعات في أزمان مختلفة، كان لها آثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الفرد والمجتمع، وهو ما يبين رشاد المنهج القرآني القويم في التعامل مع الأخبار التي تصل إلى مسامع الإنسان، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6).
ولأن التاريخ هو سِجِلُّ الأمم والشعوب، وفيه من الدروس والعبر ما يغني عن تكرار بعض الأخطاء في الحاضر، خاصة لمن استقبله بقلب واع وعقل منفتح؛ فهذه بعض نماذج من الشائعات التي انتشرت في تاريخنا وتراثنا لعلنا نستفيد منها في حاضرنا.
1- إسلام كفار مكة:
هل وصل إلى مسامعك يوماً أن كفار مكة أسلموا جميعاً؟
هل تعرف أن المهاجرين في الحبشة قد وصل ذلك إلى مسامعهم وصدقوا الخبر!
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحرم، وهناك جمع كبير من قريش، كان فيه ساداتها وكبراؤها، فقام فيهم، وأخذ يتلو سورة «النجم» بغتة، ولم يكن أولئك الكفار قد سمعوا كلام الله قبل ذلك؛ لأن أسلوبهم المتواصل كان هو العمل بما تواصى به بعضهم بعضاً، من قولهم: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (فصلت: 26).
فلما باغتهم النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوة هذه السورة، وقرع آذانهم كلام إلهي رائع خلاب- لا يحيط بروعته وجلالته البيان- تفانوا عما هم فيه، وبقي كل واحد مصغياً إليه، لا يخطر بباله شيء سواه، حتى إذا تلا في خواتيم هذه السورة قوارع تطير لها القلوب ثم قرأ: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (النجم: 62) ثم سجد، فلم يتمالك أحد نفسه حتى خرَّ ساجداً، وفي الحقيقة كانت روعة الحق قد صدعت العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين، فما تمالكوا أن يخروا لله ساجدين.
وسقط في أيديهم لمَّا أحسوا أن جلال كلام الله لوى زمامهم، فارتكبوا عين ما كانوا يبذلون قصارى جهدهم في محوه وإفنائه، وقد توالى عليهم اللوم والعتاب من كل جانب، ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين، وعند ذلك كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم بكلمة تقدير، وأنه قال عنها: «تلك الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى».
جاؤوا بهذا الإفك المبين ليعتذروا عن سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يستغرب هذا من قوم كانوا يؤلفون الكذب، ويطيلون الدس والافتراء.
وصل هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة، ولكن في صورة تختلف تماماً عن صورته الحقيقية، بلغهم أن قريشاً أسلمت، فرجعوا إلى مكة، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار، وعرفوا جلية الأمر، رجع منهم من رجع إلى الحبشة، ولم يدخل في مكة من سائرهم أحد إلا مستخفياً، أو في جوار رجل من قريش(1).
2- حيوان «الزبزب»؟
هل سمعت عن حيوان «الزبزب»؟
إنه حيوان مفترس ظهر بالعراق، يطوف بالليل، ويأكل الأطفال من الأَسرَّة، ويعدو على النيام؛ فيقطع يد الرجل، أو ثدي المرأة وهي نائمة!
طبعاً أنت لم تصدق، وحق لك ألا تُصدِّق، لكن أهل بغداد صدَّقوا هذا الخبر عام 304هـ، وكانوا يصعدون في الليل فوق أسطح منازلهم، ويضربون على الأواني النحاسية ليُحدثوا بذلك أصواتاً ضخمة؛ لينفّروا بها هذا الوحش المفترس!
حتى كانت بغداد بالليل ترتج من شرقها إلى غربها، فانتهز اللصوص الفرصة فنقبوا جدران البيوت وسرقوا ما فيها!
ولم تنقطع هذه الإشاعة إلا حينما أمر الخليفة بأن يؤخذ حيوان من كلاب الماء فيصلب على جسر بغداد ليسكن الناس، ففعل ذلك فسكن الناس!
وإليك الخبر كما جاء في «البداية والنهاية»، يقول ابن كثير: «وفي الصيف من سنة 304هـ، اشتهر ببغداد أن حيواناً عجيباً يقال له الزبزب يطوف بالليل، يأكل الأطفال من الأسرّة، ويعدو على النائم، فربما قطع يد الرجل وثدي المرأة وهو نائم، فجعل الناس يضربون على أسطحتهم بالنحاس من الهواوين والطسوت وغير ذلك؛ ينفرونه عنهم، حتى كانت بغداد ترتج من شرقها وغربها.
واصطنع الناس لأولادهم مكبات من السعف وغير ذلك، واغتنمت اللصوص هذه الشوشة، فكثر النقوب وأخذ الأموال، فأمر الخليفة بأن يؤخذ حيوان من كلاب الماء فيصلب على الجسر ليسكن الناس عن ذلك، ففعل فسكن الناس ورجعوا إلى أنفسهم واستراح الناس من ذلك»(2).
3- موت محمد علي باشا:
عام 1230هـ، كان محمد علي باشا يحارب في بلاد الحجاز، وقد شاع في هذا الوقت أنه عائد إلى مصر من الحجاز، فخرج الناس لاستقباله، لكنه لم يصل، وجعل الناس يخرجون في انتظاره لمدة ثلاثة أيام، غير أنه لم يصل، فلما حصل التراخي والتباطؤ والتأخر في الحضور، أخذ الناس في اختلاق الروايات والأقاويل كعادتهم، فمنهم من يقول: إنه حضر مهزوماً، وآخرون يقولون: مجروحاً، وغيرهم: إنه مات!
وساعد على شيوع هذه الإشاعة تحركات غير عادية لكبار رجال الدولة، وعلى رأسهم الأسرة الحاكمة، حيث انتقلوا إلى القلعة بنسائهم ومتاعهم، وأخلوا بيوتهم.
ليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل فكر كبار رجال الدولة فيمن يتولى الحكم خلفاً لمحمد علي باشا باعتبار أنه مات بالفعل؛ فاتفق عظماء البلد على ولاية إبراهيم باشا، ابن محمد علي، خلافة أبيه على الأحكام، وحددوا موعداً لذلك، ورتبوا له موكباً يركب فيه ذلك اليوم، واجتمع الناس -كما يقول الجبرتي- للفرجة عليه، واصطفوا على المصاطب والدكاكين فلم يحصل، وظهر كذب ذلك كله وبطلانه(3).
4- توبة محمد علي عن المظالم المادية:
لما تأكد رجوع محمد علي من الحجاز إلى مصر، صارت في هذه الأثناء شائعة بأنه تاب عن الظلم، وعزم على إقامة العدل، وأنه نذر على نفسه أنه إذا رجع منصوراً واستولى على أرض الحجاز؛ أفرج للناس عن حصصهم، ورد الأرزاق المحبوسة إلى أهلها.
وتهامس الناس أنه فعل ذلك في البلاد القبلية، ورد كل شيء إلى أصله، وتناقلوا ذلك في جميع النواحي، وباتوا يتخيلونه في أحلامهم، ولما مضى من وقت حضوره ثلاثة أيام كتبوا أوراقاً لمشاهير المدينين مضمونها: أنه بلغ حضرة أفندينا محمد علي ما فعله الأقباط من ظلم المدينين والجور عليهم في الفوائد الربوية، فلم يرض بذلك، وعلى المدينين الحضور لاسترداد الفوائد الربوية بعد أربعة أيام بحضرة الوالي؛ فإن أفندينا لا يرضى بالظلم.
يقول الجبرتي: ففرح أكثر المغفلين بهذا الكلام واعتقدوا صحته! ثم حضر الكثير من أصحاب الأرزاق الكائنين بالقرى والبلاد؛ مشايخ وأشرافاً وفلاحين، ومعهم بيارق وأعلام، مستبشرين وفرحين بما سمعوه وأشاعوه، وذهبوا إلى الباشا، فلما رآهم وأخبروه عن سبب مجيئهم، أمر بضربهم وطردهم، ورجعوا خائبين(4).
5- مَنْ حدَّثكم أن التتر انهزموا وأُسروا فلا تصدقوه:
يذكر ابن الأثير في كتابه «الكامل» أن التتار أشاعوا عن وحشيتهم وقوتهم ما جعل أحد الناس يقول: «مَنْ حدَّثكم أن التتر انهزموا وأُسروا فلا تصدقوه، وإذا حدثكم أنهم قُتلوا فصدقوه، فإن القوم لا يفرون أبداً، ولقد أخذنا أسيراً منهم، فألقى نفسه من الدابة وضرب رأسه بالحجر إلى أن مات، ولم يسلّم نفسه للأسر»(5).
وقد ساعدت هذه الشائعات على هزيمة المسلمين النفسية أمام التتار قبل الهزيمة العسكرية؛ ما أضعف في نفوسهم روح المقاومة، وقذف فيهم النفسية المستسلمة المنهزمة.
فقد نقل ابن الأثير رحمه الله أن رجلاً من التتر دخل درباً فيه مائة رجل، فما زال يقتلهم واحداً واحداً حتى أفناهم، ولم يمد أحد يده إليه بسوء! وأن آخر من التتر أخذ رجلاً ولم يكن مع التتري ما يقتله به فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض حتى جاء التتري بسيف وقتله به.
قال ابن الأثير: بلغني أن امرأة من التتر دخلت داراً وقتلت جماعة من أهلها وهم يظنونها رجلاً، فوضعت السلاح، وإذا هي امرأة فقتلها رجل أخذته أسيراً.
وقال: وحكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر، وقال لنا: حتى يكتف بعضنا بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد فلِمَ لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف، فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل، فأخذتُ سكيناً وقتلته وهربنا فنجونا، هذه حكاية يرويها ابن الأثير عن شاهد عيان، ثم يعلق عليها بقوله: وأمثال هذا كثير.
وقال أيضاً: ووصل الخبر إلينا ونحن بالموصل أن التتر ارتحلوا من مدينة «مراغة» خوفاً من السيف، أما أهل إربل فضاقوا بذلك ذرعاً وقالوا: هذا يوم عصيب(6)!
______
الهوامش
(1) فتح الباري لابن حجر (8/ 615)، والرحيق المختوم، ص 82.
(2) البداية والنهاية، ط هجر (14/ 801).
(3) تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار (3/ 472).
(4) تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، مرجع سابق، (3/ 479).
(5) الكامل في التاريخ (10/ 353).
(6) كيف دخل التتر بلاد المسلمين؟ ص 33.