لقد أنزل الله تعالى الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وكلف الدولة الممثلة في السلطة القضائية بالنظر في الخصومات التي تقع بين الناس، ليتم تطبيق الأحكام الشرعية، لتأخذ مفهومها الصحيح الكامل في الحياة، وتتجه للتنفيذ، حتى لا تبقى مجرد شعارات وأحلام ودعايات؛ لأن الإنسان كثيراً ما يظلم أخاه الإنسان، ويعتدي عليه، يقول الخطيب الشربيني رحمه الله: «إن طباع البشر مجبولة على التظالم ومنع الحقوق، وقلَّ من ينصف نفسه» (مغني المحتاج: 4/272).
لكي يقوم القاضي بواجبه، لا بد من توافر نوعين من العلم:
الأول: العلم بالأحكام الشرعية المكلف بتطبيقها.
الثاني: العلم بحقيقة الواقعة وتفاصيل القضية، وهو ما يحصل عليه القاضي عن طريق وسائل الإثبات المقررة والمقبولة (الحاوي للماوردي، 20/107)، وهذا ما بيّنه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «ولكنَّ البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (رواه البخاري)، والبينة هي: كل ما يبين الحق ويظهره من أدلة، والأدلة بالإجمال سبعة، هي: الشهادة، والإقرار، واليمين، والكتابة، والقرائن، والخبرة والمعاينة، وعلم القاضي.
وكلامنا هنا عن الإثبات بالقرائن، وحجيتها أمام القضاء، خصوصاً القرائن المعاصرة التي وجدت حديثاً، ولقد دارت حوارات ونقاشات بين أجهزة الأمن والتحقيق والفقهاء وشراح القانون حول حجية القرائن وصحة الاعتماد عليها في القضاء.
تعريف القرائن:
القرائن لغة: جمع قرينة، وهي الأمر الدال على الشيء من غير الاستعمال فيه، بل بمجرد المقارنة والمصاحبة (لسان العرب، مادة قرن).
والقرائن اصطلاحاً عند الفقهاء القدماء، هي: الأمارة والعلامة، وهي ما يلزم من العلم به الظن بوجود غيره؛ فالقرائن أمارات معلومة تدل على أمور مجهولة (التعريفات للجرجاني ص117).
وعرفها العلماء المعاصرون بتعريفات كثيرة؛ منها قول الأستاذ مصطفى الزرقا رحمه الله بأنها «كل أمارة ظاهرة تقارن شيئاً خفياً فتدل عليه» (المدخل الفقهي 2/914)، وعرفها د. عبدالمنعم الصدة بقوله: «القرينة هي ما يستنبطه المشرع أو القاضي من أمر معلوم للدلالة على أمر مجهول» (الإثبات في المواد المدنية ص283).
عناصر القرينة:
تقوم القرينة على أربعة عناصر أساسية:
1- الأمر الظاهر الثابت المعروف الذي تدركه الحواس ليكون أساساً للاستدلال.
2- الأمر الخفي الذي لم تدركه الحواس لأنه من الأشياء الباطنة التي يُستدل عليها بالأمارات المصاحبة للأول.
3- الصلة والعلاقة والارتباط بين الأمر الظاهر الثابت، والأمر الخفي الذي أُخِذَ من الظاهر في عملية الاستنباط والاستنتاج.
4- النتيجة؛ وهي العلم بالشيء المستنبط، أو الحكم الشرعي أو العقلي الذي يُتوصل إليه (قضايا إسلامية معاصرة 4/715).
مشروعية القرائن وحجيتها:
الفقهاء مجمعون على الأخذ بالقرائن في الجملة، ويختلفون في التفاصيل بين موسِّع ومُضيّق، ولعل السبب في عدم تصريح بعض الفقهاء بمشروعية القرائن وحجيتها في الإثبات هو الاحتياط وسد الذرائع.
ولقد ذهب الفقهاء في التصريح بمشروعية القرائن إلى قولين:
1- جواز القضاء بالقرائن، وصرح بذلك بعض علماء الحنابلة والمالكية والشافعية والحنفية، واستخرجوا قرائن كثيرة ودونوها في كتبهم (حاشية ابن عابدين 5/354).
2- منع القضاء بالقرائن، وصرح بذلك بعض الفقهاء (البحر الرائق 7/205).
واستدل القائلون بمشروعية القضاء بالقرائن بالكتاب والسُّنة والعقل؛ فمن الكتاب قوله تعالى: (وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) (يوسف: 18)، فجعل إخوة يوسف الدم على القميص علامة على صدقهم بأكل الذئب ليوسف، وهذه قرينة، ولكن عارضتها قرينة أقوى منها وهي أن القميص كان سليماً، فاستدل يعقوب عليه السلام من سلامة القميص على كذبهم.
وقال تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) (البقرة: 228)، فجعل الله الحيض قرينة على براءة الرحم من الحمل، وبنى على ذلك أحكاماً، فأجاز للمطلقة أن تتزوج فدل ذلك على جواز العمل بالقرائن (الطرق الحكيمة ص75).
ومن السُّنة قوله صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» (أخرجه البخاري)، فالفراش قرينة على المخالطة المشروعة، وإنزال ماء الزوج في رحم الزوجة وتكوين الجنين منه، فيكون الولد للزوج ويثبت نسبه منه، وحكم الرسول الله صلى الله عليه وسلم بثبوت النسب به، فيكون العمل بالقرينة مشروعاً وجائزاً في ثبوت الأحكام (الطرق الحكيمة ص227).
ومن المعقول: «فإن الظواهر تدل على البواطن، والأعيان تدل على مضمونها، والعلامة الظاهرة تستلزم مدلولها دون أن تنفك عنه، فمتى وجد الملزوم وجد لازمه، ومتى وجدت علامة الحق ثبت الحق، وإن إهدار الأمارات والعلامات يعطل كثيراً من الأحكام، مع تطور الأساليب في ارتكاب الجريمة، فكان الاعتماد على القرائن ضرورياً في الحياة، وفي القضاء، وإلا عجز الناس عن إثبات الحقوق» (الطرق الحكيمة ص74).
أما المانعون للقضاء بالقرائن فاستدلوا بآيات منها قوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء: 36)، وقوله تعالى: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (النجم: 28)، وقوله تعالى: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ) (النجم: 23)، ولكن هذه الآيات عامة ولا تتعارض مع الأخذ بالقرائن القوية دون الضعيفة.
واستدل هذا الفريق من السُّنة بقوله صلى الله عليه وسلم: «لو كنت راجماً أحداً بغير بيّنة لرجمت فلانة، فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيأتها ومن يدخل عليها» (أخرجه ابن ماجة 2/855)؛ فهنا ظهرت أمارات وقوع الزنا ولم يقم عليها الحد، فلا يعمل بالقرائن.
حكم القرائن:
يختلف الأمر المترتب على القرينة بحسب أنواعها، فالقرائن الثابتة بالنص يجب العمل بها، وكذا القرائن القطعية التي نص عليها الفقهاء يلزم القاضي الحكم بموجبها إذا ثبتت عنده.
«وإن توسع القاضي في الأخذ بالقرائن وجعل معوَّله عليها دون الأوضاع الشرعية وقع في أنواع الظلم والفساد» (الطرق الحكيمة ص108).
وتؤدي القرائن دوراً كبيراً في ترجيح الأدلة والبيّنات عند التعارض، ليعمل بالراجح والأقوى.
القرائن المعاصرة في الإثبات:
والقرائن المعاصرة كثيرة جداً، ولا تدخل تحت الحصر سواء كانت علمية أو اجتهادية، ومن هذه القرائن إجمالاً: صور آلة التصوير، وصوت آلة التسجيل، وكاميرا الفيديو، وحركات الكلب البوليسي، والوسائل الإلكترونية، والطب الشرعي، وتحليل الدم، وبصمة الأصابع، والبصمة الوراثية.
ولحاجة الناس إلى قرينة البصمة الوراثية وانتشارها، نفردها بشيء من التفصيل:
البصمة الوراثية هي: «البنية الجينية التي تدل على هوية كل إنسان بعينه، أو هي التركيب الوراثي الناتج عن فحص الحمض النووي الواحد أو الأكثر من أنظمة الدلالات الوراثية، وتعرف بالحمض النووي (دنا/ DNA)، وهي المادة الحاملة للعوامل الوراثية في الكائنات الحية” (الإثبات الجنائي للشواربي ص149)، وهي وسيلة لا تكاد تخطئ في التحقق من الشخصية، والتحقق من الوالدية البيولوجية وتحديد شخصية كل فرد عن طريق تحليل حامض “DNA” الذي يؤخذ من خلايا جسده، ونتيجة البصمة الوراثية في الإثبات للشخصية والنسب تصل إلى نسبة 99.9%، وفي حالة النفي تكون 100%، ولا تطابق لقواعد النتروجية في الحمض النووي في شخصين، مما جعلها قرينة نفي وإثبات لا تقبل الشك، لكنها تحتاج إلى معايير للتأكد من صحتها كالمؤهلات العلمية، والخبرة المتميزة، وسلامة الطرق والإجراءات (بحث في ندوة القضاء الشرعي المعاصر ص4).
ومجال الإثبات بالبصمة الوراثية متعدد، من ذلك:
– إثبات النسب والشخصية:
فقد جاء في القرار السابع لمجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته السادسة عشرة:
«استعمال البصمة الوراثية في مجال النسب لا بد أن يحاط بمنتهى الحذر والحيطة والسرية، وتقدم النصوص الشرعية على البصمة الوراثية».
«لا يجوز شرعاً الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب الثابت، ولا يجوز تقديمها على اللعان، ولا يجوز استخدامها بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعاً».
«يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في حالات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنازع كانتفاء الأدلة أو تساويها، أو في حالات الاشتباه في المواليد بالمستشفيات ودور المواليد، ومواليد التلقيح الصناعي».
– في المجال الجنائي:
إن البصمة الوراثية أدق وسيلة إثبات عُرفت حتى الآن في تحديد هوية الإنسان في إثبات التهمة أو نفيها.
وكل هذه القرائن يشترط لقبولها في الإثبات والحكم بها عدة شروط، هي: أن تكون قوية، ولا تخالف نصاً شرعياً، ولا تخالف العقل والحس، وأن تكون موافقة للمعطيات العلمية، وأن تتم عن طريق مؤسسات رسمية، وأن تتم من ذوي الخبرة التامة والعدالة والحياد والدراية، وأن تعتمد على التقنية الحديثة، وأن تنفذ من جهتين منفصلتين، وأن توثق في سجلات خاصة مع السرية التامة (موسوعة قضايا معاصرة 4/750).