لم يكن قرار الانسحاب من الاتفاق النووي مفاجئاً؛ إذ كان «ترمب» قد حضّر الأرضية لذلك من خلال تصريحاته ومواقفه العلنية السابقة.
وفي أبريل 2019م، ألغت واشنطن كل الاستثناءات الممنوحة للدول الأخرى فيما يتعلق بالعقوبات على إيران، وقامت كذلك بتصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية.
عُرفت سياسة «ترمب» هذه القائمة على الضغط المتواصل بسياسة «الضغط الأقصى»، وبموازاتها أكّد «ترمب» أنّ باب الحوار والتفاوض مع إيران مفتوح، وما على النظام الإيراني إلا طرقه من جديد.
وبدلاً من الانخراط في عملية تفاوضيّة مع الإدارة الأمريكية، عمدت إيران إلى أساليبها التقليدية، واختار النظام الإيراني التصعيد العسكري غير المباشر في منطقة الخليج دون تبني ذلك بصفة رسمية؛ كي يتهرب من التبعات المترتبة على هذا العمل من جهة، وعلى أمل أن يؤدي الضغط العكسي والخوف من اندلاع حرب إلى تراجع «ترمب» عن العقوبات على إيران أو حتى تخفيفها من جهة أخرى.
ونتيجة لهذا الخيار، اختبرت إيران مواقف «ترمب» بسلسلة من العمليات ما بين مايو وسبتمبر 2019م، شملت استهداف نحو 6 ناقلات نفط في محيط منطقة الخليج، وإسقاط طائرة أمريكية من دون طيّار تقدّر قيمتها بما يفوق الـ130 مليون دولار، وقرصنة ناقلة بريطانية قبالة السواحل العُمانية، واستهداف منشآت أرامكو النفطية السعودية بطائرات مسيّرة وصواريخ «كروز».
لم يرد «ترمب» على أي من هذه الهجمات الإيرانية، وهو ما خلق انطباعاً عنه بأنه ضعيف وفي موقف حرج.
اعتقدت إيران أن قرب موعد الانتخابات، وطرد المستشارين الأكثر عدائية تجاه إيران من حول «ترمب»، سيجعله غير قادر على الرد حتى لو أراد ذلك، ونتيجة لهذا التقييم الذي توصّلت إليه القيادة الإيرانية، تم الإيعاز لمليشياتها في العراق بالتصعيد مجدداً؛ فتخطت طهران الخط الأحمر الأخير لـ»ترمب» عندما قتلت متعهداً أمريكياً، وهاجمت السفارة الأمريكية، وقد استهزأ المرشد الأعلى للجمهورية «علي خامنئي» حينها بـ»ترمب» بتغريدة أشار فيها إلى أن الرئيس الأمريكي لن يستطيع فعل شيء يؤذي إيران.
بهذا المعنى، كانت الجولة الأخيرة من التصعيد الإيراني تهدف إلى:
– التأكيد على ضرورة تراجع «ترمب» عن العقوبات التي تدفع إيران باتجاه الانهيار الاقتصادي والانكماش الإقليمي.
– تقويض حظوظ «ترمب» في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، على أمل أن يؤدي ذلك إلى صعود الديمقراطيين، وبالتالي وضع حد للعقوبات وإعادة العمل بالاتفاق النووي.
– استعراض قدرات إيران على إشعال الحرائق في المنطقة إن لم يتم التوصل إلى اتفاق معها.
حسابات خاطئة
كانت حسابات النظام الإيراني تشير إلى أن «ترمب» لن يستطيع الرد على هذا التصعيد لعدّة أسباب، من بينها أنّه كان قد تمّ اختبار موقفه سابقاً بعدد من العمليات العسكرية دون أن يرد، وثانياً أن قرب موعد الانتخابات الأمريكية يقيّد من خياراته وتحركاته، لكن حسابات «ترمب» كانت مختلفة تماماً عما تصوره النظام الإيراني عنه.
«ترمب» الذي يصعب توقع سلوكه، راهن على:
– أن الانعطافة في الموقف من شأنها إرباك النظام الإيراني وخلط حساباته.
– السكوت على الضربة من شأنها أن تقوّض من مصداقيته وتشجع النظام الإيراني على شن المزيد من الهجمات.
– الأهم من ذلك أن قتل مواطن أمريكي ومهاجمة السفارة الأمريكية ستعطي الذريعة لمنافسيه من الديمقراطيين للنيل منه، سيما أن «ترمب» كان ينتقد «هيلاري كلينتون» سابقاً بسبب مهاجمة السفارة الأمريكية في ليبيا.
لقد وضع اغتيال قاسم سليماني النظام الإيراني في مأزق كبير؛ فقد قتل «ترمب» قائده الأول في الميدان الإقليمي، والرجل الأكثر شعبية ربما داخل إيران على الإطلاق، وكانت أمام سيناريو:
– إما السكوت بشكل مطلق على العملية الأمريكية مما سيقوّض من شرعية النظام الإيراني، وقد يسارع من تدهور وضعه الداخلي والإقليمي.
– أو الرد عليه بالمثل لناحية وزن الهدف أو قوّة الضربة، فقد يؤدي ذلك إلى اندلاع حرب يكون نتيجتها سقوط النظام الإيراني أمام القوّة المدمرة الأمريكية.
لكن ما زاد من الضغط على النظام الإيراني هذه المرة أن الرئيس الأمريكي:
– أعاد رسم خطوطه الحمراء من جديد بشكل أوضح.
– عزّز استعادته لقوة الردع بتهديدات مفادها أن أي رد إيراني يتجاوز الخطوط الحمراء المعلنة سيؤدي إلى رد مدمر.
– إرسال نحو 6 قذائف من قاذفاتها من طراز «بي-52» القادرة على حمل قنابل نووية إلى قاعدة «دييغو غارسيا» في المحيط الهندي لتصبح على مقربة من إيران في حال حصول تطورات غير محسوبة العواقب.
بعد التهويل والتهديد والوعيد برد مزلزل، قامت إيران بردّ هزيل في 8 يناير 2020م، شمل إطلاق 15 صاروخاً ضد قواعد عراقية يتواجد بها جنود من جنسيات أمريكية وغربية وعراقية، ثلثها تقريباً فشل في الإطلاق أو سقط بعيداً عن الهدف المحدد له، فيما لم يصب الباقي منها أو يقتل أي أحد.
تشير المعطيات المتعلقة بعدم سقوط قتلى، إضافة إلى عدم خرق الرد الإيراني المفترض أياً من خطوط «ترمب» الحمراء، إلى أنّ النظام الإيراني قَبِلَ بابتلاع الضربة رغماً عنه، وقد سُمِحَ له أن يحفظ ماء وجهه أمام قاعدته.
في نهاية المطاف، ليس لـ»ترمب» مصلحة في حشر النظام الإيراني بالزاوية أكثر من اللازم لدرجة تدفعه إلى الانتحار، وقد أثبت النظام الإيراني كذلك أنه ليس نظاماً انتحارياً في جميع الأحوال، ولا يسعى إلى حرب مع أمريكا، وأنه يعرف حجمه الحقيقي تماماً، وأولويته المحافظة على النظام في السلطة ولو كان الثمن ابتلاع مقتل سليماني.
علاوة على ذلك، أثبت النظام الإيراني عدم كفاءة منقطعة النظير عندما أدت جنازة سليماني إلى مقتل أكثر من 50 إيرانياً وجرح أكثر من 200، وإسقاط الحرس الثوري لطائرة مدنية أوكرانية بصاروخين أرض جو بعد دقيقتين من إقلاعها من المطار في طهران؛ ما أدى إلى مقتل جميع ركابها وغالبيتهم من الإيرانيين، وهو ما يشير إلى حجم التوتر الذي كان سائداً بين صفوف الحرس الثوري والخوف من تلقي ضربة أمريكية.
انتهت هذه الجولة بنصر كبير لـ»ترمب»، فهو قتل أرفع قائد عسكري إيراني خلال العقود الماضية دون أي تكاليف تُذكر، ورفع من سقف خطوطه الحمراء، واستعاد قوة الردع أمام إيران، وزاد من العقوبات ضد طهران، دافعاً إياها مرة أخرى إلى المعادلة السابقة، إما التفاوض تحت الضغط أو المخاطرة بانهيار الوضع الداخلي تحت وطأة العقوبات الاقتصادية المتزايدة، لا سيما إذا ما نجح «ترمب» في الفوز بولاية ثانية بموازاة إطلاق الأوروبيين لآلية العقوبات الأممية في الملف النووي.
خيارات إيران القادمة
بالرغم من تصريحات النظام الإيراني التي تُظهر تعالياً وقدرة على مواجهة واشنطن، فإن خيارات إيران بعد مقتل سليماني أصبحت محدودة للغاية:
1- خيار الحرب التقليدية: وهو خيار مستبعد ضمن المعطيات الموضوعية؛ إذ لا يمكن لإيران مواجهة الولايات المتحدة في أي حرب تقليدية؛ بسبب التفوق الساحق لواشنطن التي تستطيع تدمير النظام الإيراني إذا قرر الأخيرة الذهاب بهذا الاتجاه.
2- خيار التصعيد غبر المباشر: جرّبت إيران هذا الخيار في عدة جولات، امتدت في الفترة ما بين مايو وسبتمبر 2019م، بالإضافة إلى يناير 2020م، وقد انتهى هذا الخيار بنتائج كارثية على النظام الإيراني، كان من بينها مقتل سليماني وما تبعه من تداعيات.
3- خيار الأذرع الإقليمية: استخدام الأذرع لاستهداف المصالح الأمريكية أو «الإسرائيلية» هو خيار متاح نظرياً، لكنه مقيّد للغاية الآن من الناحية العملية؛ بسبب عوامل تتعلق بوضع إيران الداخلي السياسي والاقتصادي بالتحديد، وبسبب بيئة عمل هذه الأذرع ووضعها الداخلي المتدهور سواء في لبنان وسورية والعراق واليمن.
4- خيار التفاوض: ويعتبر هذا الخيار الأكثر موضوعية ضمن الظروف الماثلة، لكنّ هناك مشكلة في تأمين الظروف الملائمة له؛ فالجانب الإيراني لا يريد التفاوض تحت الضغط كي لا يبدو وكأنه إذلال له أو إجبار عليه، وفي المقابل؛ فإن الجانب الأمريكي يعتبر أن تفاوضاً من دون ضغط يعتبر بمثابة لعبة لكسب الوقت فقط، وهذا ما يفعله النظام الإيراني دوماً.
5- خيار «الجوكر»: وهو خيار يقوم على استهداف النظام الإيراني لمصالح أمريكية قبيل الانتخابات الأمريكية بفترة بسيطة جداً بشكل يؤدي إلى حرمان «ترمب» من فرصة الرد سيما مع تقييد الكونجرس لصلاحياته في هذا المجال بعد التصويت الذي جرى عقب اغتيال سليماني، لكن في المقابل؛ فإن مثل هذا الأمر قد يدفع فعلاً إلى حرب، خاصة إذا ما شعر «ترمب» أن حظوظه بالفوز باتت ضعيفة.