سنستعرض في هذه الأسطر رباعيتين حول أهم التحديات وأوسع الآمال.
أولاً: التحديات الماثلة
1 – تعرض هوية الأجيال الجديدة للخطر:
وسط سيل هائل من الأفكار والتصورات والمذاهب، وتشظية القيم والأخلاق والمبادئ، «ونسبنة» كل شيء؛ تبقى الأجيال الجديدة في مواجهة كل ما سبق ضعيفة القدرة والتحصين والتكوين، لهذا فإنَّ أهل النُّهَى يدركون خطورة الشبهات أكثر من الشهوات، فإن الشبهات تأتي على الفكر والعقيدة من قواعدها، والبيئة الأوروبية بحر متلاطم الأفكار والعقائد، ومن ثم فالأولوية التي ينبغي لنا في أوروبا أن نعتني بها ضمن جملة واجباتنا وخططنا داخل المؤسسات الإسلامية في أوروبا وفي الغرب عامة، بل في العالم كله، أن نبذل جهداً كبيراً في بناء الأجيال الجديدة، والعناية الحكيمة والدؤوبة بالشباب؛ توجيهاً وبناء وتكويناً وترشيداً وتمكيناً من أداء دورهم، واستيعاب قدراتهم، والعمل على تنميتها وتطويرها وتوظيفها.
علينا أن نستفيد من منهج القرآن الكريم المكي بأسلوبه وخصائصه ومزاياه وطريقته في بناء الإيمان.
2 – الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا):
جاءني أحد المصلين بعد صلاة الجمعة منذ شهرين وقال لي: دار حوار بيني وبين امرأة ألمانية تجاوزت الستين من العمر، وقالت لي: إنها تعرف الكثير عن الإسلام وعن نبيّه، فقال لها: وماذا تعرفين عن نبي الإسلام؟ قالت: أعرف أنه كان رجلاً كبيراً يتزوج الفتيات الصغيرات، ويسكن الصحراء مع أصحابه، ويقطعون الطريق على الناس!
فرغ الرجل من كلامه، وشعرتُ أنَّ طعنة مريرة استقرت في فؤادي، أهذه صورة نبي الرحمة العظيم الجليل في عقل تلك المرأة؟ ثم قلت: كم مثلها لا يعرف عن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم إلا اليسير من المعرفة، وأكثرها تخليط في تخليط؟ ثم قلت: وهل معرفة كثير من المسلمين عن سيرة الرسول تسر صديقاً أو تغيظ عدواً؟!
منذ سنوات جاءني أحد الرجال الطيبين قُبيل قدوم شهر رمضان، وطلب أن يتعاون معي في إعداد مسابقة ثقافية نقدمها للمسلمين في الشهر المبارك، فرحبت بذلك بطبيعة الحال، فأخرج على الفور ورقة من جيبه وقال: خذ هذه الأسئلة قد تساعدك في إعداد المسابقة، ولما قرأتها وجدت أكثر من ثلاثين سؤالاً تدور كلها حول المعارك التي انتصر فيها المسلمون في رمضان!
لم أتعجب كثيراً عن أسباب الخوف من الإسلام إذا كنا نتصور الإسلامَ غزواتٍ وحروباً، إننا بذلك نؤكد شبهات المتحاملين على ديننا ونكفيهم مؤونة الحملات المتتالية لتلويث سمعته والغض من وجهه النضر.
لعل بعض من يتابعنا يحمل علينا قائلاً: لماذا تتحامل على المسلمين وكأن أصل الداء ومكمن البلاء هم؟ قلت: ليس الأمر هكذا، وقد سبق أن كتبنا مقالاً ذكرنا أسباباً أخرى، لكننا نستلهم منهج القرآن الكريم في طُرق تجاوز العثرات والأخطاء، ونقطة الانطلاق في الإصلاح يجب أن تنبعث من داخل النفس الإنسانية والتنقيب عن مواطن الضعف والخلل، فما أُتي على الإنسان إلا من نفسه، والقرآن يأمرنا أن نُحكم إغلاق الأبواب والنوافذ التي تجلب علينا المتاعب، وأن نحصن جبهاتنا الداخلية أولاً قبل أن نُلقي باللوم على شياطين الإنس والجن، فقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 165).
إن من أقوى التحديات التي تواجهنا تصاعد الخوف من الإسلام والمسلمين، وما يثير القلق حقاً أن حدثاً إرهابياً هنا أو هناك يغير الموازين عند كثير من المواطنين، سيما أن كثيراً من وسائل الإعلام تتسم بالتحيز الواضح عند تغطيتها لأخبار وأحداث تتصل بالإسلام والمسلمين.
3 – تحلل الأسرة:
أخطر ما يواجه العالم الآن هو خطر سيولة الأسرة، نعم ففي خضم معركة الحياة الدائمة، ننسى أن أكبر نصر يحققه إبليس في حربه مع بني آدم هو أن تتلاشى الأسرة، والشيطان الذي توعدنا بأن يقعد لنا الصراط المستقيم، وأن يواجهنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وشمائلنا متفنناً في سبل الغواية والضلال، ثم إن عمله لا يختص بالمسلمين المؤمنين الموحدين، بل يترصد كل إنسان ليكون أداة من أدوات إفساد الأديان والعقول والقلوب والأجساد والأرواح وجميع صور الحياة، فلا يترك عالماً ولا جاهلاً، ولا مؤمناً ولا فاسقاً، ولا كافراً ولا ملحداً إلا زين له عمل السوء فرآه من بعد ذلك حسناً، وهذا ما يفسر لنا تدافع تلك القوافل المجنونة المحتشدة في انتظار صافرة لينطلقوا بعدها كالسيل يجرف كل حاجز يحول دون إشباع غرائزهم، فلا تعجب عندما تفجعك الإحصائيات عن ارتفاع نسبة الطلاق حول العالم، والأطفال الذين يعيشون دون أب، أو دون أم، وما يزيد النارَ اشتعالاً والليلَ ظلاماً، ويحيل الماءَ العذب الفراتَ ملحاً أجاجاً هذا العبث الجنوني بالأسرة في عصرنا المحزون، حينما ينشأ طفل بين رجلين أو امرأتين، وستواجه الإنسانية مزيداً من الشقاء طالما أن عقلها هو إلهها، ومِقْوَدها بيد شهواتها.
تخيلوا أن الأسرة المسلمة تعيش في ظل هذه الحال المعاصرة، كيف يكون حالها؟ كيف تقوى على مواجهة هذه العواصف؟ لا ريب أن شرراً كبيراً أصابها اليوم في الشرق والغرب.
استقبلت ألمانيا مع مطلع عام 2014م مئات الآلاف من اللاجئين من إخواننا السوريين وغيرهم، ولا ريب أنها نازلة ضخمة على المجتمع وعلى اللاجئين أنفسهم، فلا عهد لهم بواقع جديد بظروفه وأحواله ومشكلاته وتعقيداته وتحدياته وفرصه، وقد وجدنا أن أكثر ما خسرناه الأسرة، فكم من أطفال صغار ضاعوا وسط نزاعات الكبار، وكم من شباب قطعوا ما بينهم وبين دينهم وثقافتهم وحضارتهم من وشائج.
فتماسك واستقرار الأسرة والمحافظة على هويتها من أكبر التحديات التي علينا أن نواجهها من خلال العمل العلمي والتوعية الدائمة، والمناشط العملية المتنوعة.
4 – انسداد آفاق الدعم المالي عن المؤسسات الإسلامية:
منذ زمن غير بعيد لم تكن تشكو معظم المؤسسات الإسلامية من العَوَز وضعف الإمكانات؛ ذلك لأن المؤسسات الخيرية في كثير من الدول العربية، خاصة دول الخليج، كانت تتطوع بالدعم المالي في بناء المساجد في كرم وسخاء، بيد أن نبع العطاء تأثر بشكل متدرج بداية من حرب الخليج الثانية، وبعد عقد من الزمان انقلبت الموازين في الدنيا على وقع تفجيرات 11 سبتمبر؛ حيث أُغلقت مؤسسات، وحُوصر غيرها، وتم تضييق الخناق على دعم المؤسسات الإسلامية تحت اللافتة الخداعة «الحرب على الإرهاب».
وكأننا بعد عَقد أمام تحول جديد وكروب متجددة، فما تبع «ثورات الربيع العربي» أكمل مشروع تجفيف منابع الدعم المالي، ومع دخول أطراف أخرى من خارج أوروبا لتضييق الخناق على المسلمين، متعاونين بكل سبيل مع كل يد تكتب الزور وتروج للكذب وتشعل الكراهية ضد الإسلام والمسلمين.
ولا يسعنا في أوروبا أمام هذه التحديات إلا أن نسعى إلى استقلال المؤسسات الإسلامية مالياً، وتحرر جميع مساجدنا من أي تبعية تسلب منها إرادتها وقرارها، وفي هذا الصدد يجب على كل مسلم في أوروبا والغرب عامة أن يستشعر طبيعة المرحلة التي نمر بها واحتياجاتها، ودوره في بناء وبقاء وتطوير أداء المساجد والمؤسسات العاملة.
ثانياً: الآمال المرتجاة
1 – تراجع شعبية اليمين المتطرف: هل نشهد تراجعاً نسبياً لأحزاب اليمين في ألمانيا وفرنسا والنمسا والسويد وبريطانيا وغيرها من الأقطار الأوروبية؟
لم تتمكن أحزاب اليمين من إحراز تلك النجاحات بين عشية وضحاها، بل سبقها جهد وعمل وفكر وتنظيم واستثمار فرص وتوجيه أحداث وحركة متواصلة.
والوصول إلى تقليص فرصهم وتغيير المناخ العام الذي بلغ بهم إلى سدة أكبر الغرف البرلمانية يستدعي منا، ومن شركائنا في المجتمع، عملاً كبيراً ومشاركة سياسية فاعلة واعية ناضجة من المسلمين في أوروبا، وجهوداً أخرى كثيرة متنوعة، ولقد استشعر كثير من مسلمي أوروبا فداحة ضعف المشاركة السياسية للمسلمين، وأرى أن الوعي العام يتزايد في صفوف المسلمين، وأننا نُؤمل خيراً في الأجيال الجديدة التي تتسم بالوعي والمبادرة والشجاعة.
2 – الانفتاح على المجتمع: «تحدث حتى أعرفك»، لكن لا يكفي أن تتحدث، بل يجب أن تعرف مع مَن تتحدث، وكيف تتحدث، ومتى وبأي طريقة؛ فالحماسة والرغبة العاطفية وحدها لا تُفضي للمقصود، بل قد تجلب ضرراً من حيث رُمْتَ النفع، وهذا ضد الحكمة.
ما أريد قوله هنا، بل وأُحذر منه، أن عزلتنا عن المجتمع خطأ فادح، والأكثرية المحايدة هي محل الصراع والتسابق بين قوى الخير والشر، ومن يسبق يغلب، تلكم هي المعادلة، ولا أنسى عامل تفاوت القدرات الكبيرة بين المسلمين وأصحاب الأجندات الأخرى، ولكنَّ الله تعالى أمرنا بالسعي والعمل واستفراغ الوسع.
3 – تمكين الشباب: وأقصد به أن نعتني بالشباب عناية خاصة، ويمكن أن أوجز خطتنا في الحروف التالية:
أ- البرامج العامة والأنشطة الجاذبة للشباب المسلم في أوروبا باللغات الأوروبية، وعلى المساجد أن تتصف بالكرم والسخاء على أنشطة الشباب، وتخصص لها ميزانية معتبرة من أجل صرف قلوبهم وعقولهم إلى المساجد.
ب– العمل على تكوين المشرفين على عمل الشباب داخل المساجد، وأن ينتقل العمل تدريجياً من التطوع والاحتساب إلى العمل الوظيفي، وأنا أعلم أن كثيراً من المساجد سيحتج القائمون عليها بضعف الإمكانات المادية، لكننا نقول: إن الفكرة الجيدة قادرة على جلب كلفتها المالية وجمع الناس عليها متى رأى الناس جدواها ونفعها وأثرها في صدور وعقول شبابنا وأبنائنا.
جـ- العناية بالمواهب والتفرس في الشباب واكتشاف قدراتهم ومواهبهم والسعي إلى تنميتها وترقيتها وتطويرها وتوظيفها والانتفاع بها.
د- إشراك الشباب بعد أن ينالوا قسطاً من التكوين والتدريب في إدارة العمل المؤسساتي، وأن نترك لهم الفرصة للعمل وفق رؤيتهم وطريقة تفكيرهم، على أن نحسن توجيهم والتواصل معهم بالعلم والتدرج وتكامل الجهود والعقول والأفكار.
4 – مشاركة أوسع للمرأة: حاول معي أيها القارئ الكريم تتبع نسبة حضور المرأة في الأنشطة العلمية والدعوية والتربوية وغيرها من الفعاليات التي تقيمها المؤسسات الإسلامية في الشرق والغرب، ستنتهي إلى أن نسبة حضورها يتجاوز في كثير من الحالات أكثر من النصف، وأعرف عدداً من المؤسسات الشبابية في أوروبا معظم أعضاء مجلس إدارتها من الشابات، وذلك له دلالة كبيرة تؤكد القدرات الموفورة عند المرأة المسلمة، كما تتسم الأعمال المنوطة بهن بقدر عال من الإتقان والشعور بالمسؤولية والنظام، وتضحيات كبيرة في سبيل أداء العمل على أفضل الوجوه وأكملها.
________________________________________________________
(*) رئيس هيئة العلماء والدعاة في ألمانيا، عضو المكتب التنفيذي للمجلس الأوروبي للأئمة.