– سياسة العقوبات تكتيك قديم لدى أمريكا مع خصومها لكنه استُخدم في عهد «ترمب» على نطاق واسع
– قيمة الأموال بالبنك الفدرالي الأمريكي تبلغ 35 مليار دولار يهدد «ترمب» بتجميدها إذا طُردت قواته
– بإغلاق الحساب العراقي بالفدرالي الأمريكي ستعجز الحكومة عن القيام بالأعمال اليومية ودفع الرواتب وسينهار العراق
– العراقيون يملكون خلفية عن خطورة العقوبات وآثارها بعد فرضها عليهم سابقاً إثر غزو «صدام» للكويت
بعد أن طالب مجلس النواب العراقي (البرلمان) بمغادرة القوات الأجنبية -ومنها القوات الأمريكية- الأراضي العراقية، إثر اغتيال الجنرال قاسم سليماني، رئيس فيلق القدس الإيراني، وأبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، وأشخاص آخرين كانوا برفقتهما، في قصف صاروخي أمريكي استهدف سيارتين كانوا يستقلونهما على طريق مطار بغداد الدولي، الجمعة 3 يناير 2020م؛ هدد الرئيس الأمريكي «دونالد ترمب» بفرض عقوبات كبيرة على بغداد، وقال للصحفيين: إذا طالب العراق برحيل القوات الأمريكية، ولم يتم ذلك على أساس ودي؛ فسنفرض عليهم عقوبات لم يروا مثلها من قبل مطلقاً، وستكون عقوبات إيران بجوارها شيئاً صغيراً.
أثار تهديد «ترمب» بفرض عقوبات على العراق تساؤلاً لدى المراقبين عن مدى سطوة بلاده على الاقتصاد العراقي، والأوراق التي تملكها إدارته للضغط على صانع القرار العراقي، وثنيه عن تحقيق مطلب إيران بإخراج القوات الأمريكية من المنطقة ثأراً لسليماني.
ولا بد ابتداءً من الإشارة إلى أن سياسة العقوبات تكتيك قديم متبع لدى الولايات المتحدة مع خصومها، لكنه استُخدم في عهد «ترمب» على نطاق واسع، مع دول عدة، منها: كوريا الشمالية، وإيران، وتركيا، والصين، وروسيا.
هذه السياسة أقرها الرئيس الأمريكي الـ28 للولايات المتحدة «وودرو ويلسون»، الذي قال: «كلا.. ليست الحرب، بل شيء آخر أكثر هولاً من الحرب، طبقوا هذا العلاج الاقتصادي السلمي الصامت القاتل، ولن تعود هناك حاجة إلى القوة.. المقاطعة هي البديل عن الحرب».
والعراق هو ثاني أكبر منتج للنفط الخام في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، ويعتمد بنسبة تزيد على 90% على وارداته النفطية بميزانية الدولة التي بلغت 112 مليار دولار عام 2019م.
ويُودِع العراق واردات بيع نفطه في حساب خاص في البنك الفدرالي الأمريكي، تأسس عام 2003م لإيداع الإيرادات النفطية وذلك بعد غزو العراق لدولة الكويت، بموجب القرار (1483) الصادر عن مجلس الأمن الدولي، الذي بموجبه تم رفع العقوبات الدولية المشددة والحظر النفطي المفروض على بغداد التي فرضت بعد غزو «صدام حسين»، وكان الهدف من ذلك مساعدة الحكومة على إدارة موارد البلاد بطريقة شفافة ومسؤولة لحساب الشعب.
وتبلغ قيمة الأموال في هذا الحساب حالياً نحو 35 مليار دولار، هدد الرئيس الأمريكي باستخدامها من أجل سداد تكاليف المنشآت التي أنشأتها قواته في العراق، إذا ما مضت السلطات في قراراتها المتعلقة بإخراج القوات الأجنبية الموجودة من قواعدها العسكرية.
وليس أمام الحكومة العراقية خيار سوى استخدام هذا الحساب، الذي تدفع منه شهرياً ملياري دولار نقداً للمعاملات الرسمية والتجارية، وفي حال تجميد الحساب سيصبح العراق غير قادر على استيراد المواد الغذائية والدوائية الأساسية للحياة، التي يعتمد بما يقدر بنحو 90% منها على الخارج، كما أن ذلك يعني عودة العراق لأحكام «الفصل السابع» من ميثاق الأمم المتحدة، الذي سيؤدي إلى أن تتم إدارة البلاد من قبل الأمم المتحدة.
ويمكن لأمريكا تجميد حساب الاحتياطي الفدرالي للمصرف المركزي العراقي من خلال وضع حكومته في القائمة السوداء؛ الأمر الذي سيقيد على الفور وصول بغداد إلى تلك الأموال؛ وهو ما يعني انهيار الاقتصاد.
وكشف مسؤولون عراقيون لوكالة «فرانس برس»، يوم 13 يناير الماضي، أن واشنطن سلمت رسالة شفهية إلى مكتب رئيس الوزراء المستقيل عادل عبدالمهدي.
وصرح أحد هذين المسؤولين -لم تذكر الوكالة اسميهما- أن «مكتب رئيس الوزراء تلقى مكالمة تهديد؛ بأنه إذا تم طرد القوات الأمريكية، فإن الولايات المتحدة ستغلق حسابكم في البنك الاحتياطي الفدرالي في نيويورك».
وأضاف المسؤول: «نحن دولة منتجة للنفط، وهذه الحسابات بالدولار، وتجميدها ومنع الوصول إليها يعني إغلاق الحنفية تماماً».
فيما أشار المسؤول الثاني إلى أن «ذلك سيعني أن الحكومة لن تستطيع القيام بالأعمال اليومية أو دفع الرواتب، وأن قيمة العملة العراقية ستهبط»، مستدركاً أن «هذا سيعني انهيار العراق».
تقييد إيصال شحنات الدولار من البنك الفدرالي الأمريكي ورقة ثانية تهدد بها واشنطن، ومن شأنها أن تهدد المعاملات المالية في الاقتصاد العراقي، ونشرت وسائل إعلام محلية عراقية معلومات عن أن مسؤولاً رفيعاً في الإدارة الأمريكية ذكر للجانب العراقي أن بلاده تدرس تقييد وصول النقد إلى نحو الثلث، وقد أثارت هذه المعلومات قلق القطاع المصرفي في العراق، وهو ما انعكس تراجعاً في قيمة الدينار أمام الدولار.
وكانت وكالة «فيتش» للتصنيف الائتماني أكدت، في تقرير لها، أن اقتصاد العراق سيتأثر بالتوترات الإقليمية، وسيكون عرضة للاهتزازات أكثر من أي دولة أخرى في منطقة الشرق الأوسط، وحذرت من أن تصاعد التوتر الأمريكي الإيراني يشكل صداعاً جيوسياسياً للعراق، الذي تؤثر عليه المخاطر السياسية الداخلية مما جعل تصنيفه في مستوى سلبي.
وأشار خبراء الوكالة إلى أن المخاطر الجيوسياسية الكبيرة تؤدي دوراً مهماً في التصنيفات السيادية للمنطقة التي من المرجح أن تكون أقرب إلى التأثر.
آثار متوقعة للعقوبات
الخشية من العقوبات الأمريكية على العراق انعكست بسرعة كبيرة على مؤشرات الاقتصاد العراقي، وأدت المخاوف إلى هروب رؤوس الأموال، ودفعت المواطنين إلى حركة تبضع فوق العادة.
فالعراقيون يملكون خلفية عن خطورة العقوبات وآثارها، ففي أغسطس 1990م، أصدر مجلس الأمن القرار رقم (661)، بفرض عقوبات اقتصادية على العراق بسبب غزو نظام «صدام حسين» لدولة الكويت، وشملت هذه العقوبات حظراً تجارياً كاملاً باستثناء المواد الطبية والمواد التي لها صفة إنسانية، بهدف إجباره على سحب قواته منها، لكن قبل أن تؤدي العقوبات الغرض الذي فرضت لأجله قادت أمريكا تحالفاً دولياً حرر الكويت من سيطرة القوات العراقية بقوة السلاح، وبقيت العقوبات سارية تحت عنوان «التأكد من خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل، وتطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي».
وتسببت العقوبات بتدمير البنية التحتية للبلاد، وشمل الدمار: محطات الاتصالات والكهرباء، والمصانع والمنشآت النفطية، ومخازن الحبوب والمواد التموينية، والأسواق المركزية، ومحطات ضخ المياه للمنازل.
وبلغ حجم التضخم في نهاية عام 1994م معدل 24000% سنوياً، وتراجع هذا المعدل في السنوات التالية بعد تطبيق برنامج «النفط مقابل الغذاء»، الذي من خلاله سمحت الأمم المتحدة للعراق باستيراد حاجته من المواد الغذائية مقابل النفط.
ويرى خبراء الاقتصاد أن العراق اليوم لن يكون قادراً على تحمل تبعات العقوبات الاقتصادية الأمريكية، بسبب ارتفاع معدلات البطالة، ودمار البنى التحتية للزراعة والصناعة بسبب الإهمال والفساد، الذي قاد الشارع العراقي لموجة احتجاجات عارمة ضد الطبقة الحاكمة، ما زالت فصولها مستمرة، وتجاوز عدد من قتل فيها المئات.
وأثارت المخاوف من العقوبات، واستخدام العراق ساحة للصراع بين واشنطن وطهران، العديد من التساؤلات حول حقيقة استقلال العراق، وقدرة حكومته على اتخاذ القرارات السيادية، وأصبحت مسألة تحقيق الاستقلال الناجز، والنأي بالعراق عن دوائر الصراع في المنطقة، واحدة من مطالب ساحات التظاهر في أرجاء البلاد.
____________________________
(*) صحفي ومحلل سياسي عراقي.