حين قرر مهاتير محمد العودة لحكم ماليزيا، في مايو 2018م، رئيساً لحكومة ائتلافية (ائتلاف الأمل) يقود حزب غريمه الإسلامي السابق أنور إبراهيم، بعدما شغل المنصب من قبل لمدة 22 عاماً (1981 – 2003م)، وكان أنور نائبه (1993 – 1998م)، كان هدفه إقصاء رئيس الوزراء الفاسد المسجون حالياً نجيب رزاق.
ومع تولي مهاتير الحكم وإبعاده حزب “أومنو” أو “منظمة اتحاد الملايو” الحاكم من السلطة بعدما حكم البلاد على مدار ستة عقود، حدثت خلافات داخل “تحالف الأمل” الذي ضم حزبي “بيرساتو” بزعامة مهاتير، و”عدالة الشعب” بزعامة أنور إبراهيم، إضافة لعدد آخر من الأحزاب.
فقد شمل الاتفاق بين أحزاب “تحالف الأمل” أن يتخلى مهاتير عن رئاسة الوزراء -دون تحديد موعد محدد- لأنور إبراهيم بعد الفوز في الانتخابات، ومع ضغوط إبراهيم وحلفائه المتكررة كي يحدد مهاتير موعداً لتسليم السلطة، حسب الاتفاق، بدأت بوادر الأزمة، وظهر الاستقطاب جلياً بين تيارين؛ أحدهما يريد استمرار مهاتير في السلطة، والآخر يريد تنفيذ الاتفاق.
وكانت المفاجأة أن مهاتير قدم استقالته في لحظة غضب للسلطان، وتزامن هذا مع تسريب غريمه الإسلامي أنور إبراهيم أنباء عن أن مهاتير يسعى لعدم الوفاء بالاتفاق وعدم تسليم السلطة له، واتهم حزب مهاتير بالتآمر لتشكيل حكومة جديدة مع حزب “المنظمة الوطنية المتحدة للملايو”، وهو الحزب الحاكم السابق الذي أُطيح به في عام 2018م، وسط اتهامات له بـ”الفساد”.
وكانت المفاجأة هي قبول السلطان استقالة مهاتير، في الوقت الذي عاد فيه الأخير ليعلن أنه مستعد للبقاء في السلطة ولديه 114 مقعداً في البرلمان يؤيدونه ليكون رئيساً للوزراء، وهو أعلى من العدد المطلوب المحدد بـ112 نائباً، ولكن الملك أصر على رأيه في تعيين رئيس وزراء جديد من الحزب الفاسد السابق، لتصبح الأزمة رباعية بين مهاتير والسلطان والإسلاميين والفاسدين من الحزب الحاكم سابقاً، معاً!
وقد أدى رئيس الوزراء الماليزي الجديد، محيي الدين ياسين، الأحد 1 مارس 2020م، اليمين الدستورية بالفعل، بعد تعيينه من قِبل السلطان عبدالله أحمد شاه، خلفاً لمهاتير محمد، وسط مراسم أقيمت بالقصر الملكي في العاصمة كوالالمبور، وبدأ ياسين مهامه رسمياً بعد أدائه اليمين، ونقلت “وكالة الأنباء الماليزية”، عن بيان لمشرف القصر الوطني أحمد فاضل شمس الدين، قوله: إن “القصر أعلن تعيين ياسين، رئيس الوزراء الماليزي الثامن”.
واعتبر البيان أن القرار الذي اتخذه الملك بشأن تعيين رئيس الوزراء “أفضل حل للاضطراب السياسي الذي شهدته البلاد منذ أيام”؛ ما عمق الأزمة السياسية في ماليزيا، خصوصاً بعد إعلان مهاتير رفضه قرار الملك تعيين محيي الدين، وتأكيده أنه يملك الدعم الكافي لتولي هذا المنصب.
ويبدو أن ملك ماليزيا عيّن محيي الدين، وهو وزير الداخلية السابق، رئيساً للوزراء، بعد توصله إلى أنه يحظى بدعم نواب البرلمان، وهو ما يؤشر إلى هزيمة سياسية لمهاتير وعودة حزب ياسين الذي تلاحقه تهم فساد إلى السلطة.
وقد شكّل تعيين محيي الدين صدمة وغضباً شعبياً، إذ كيف يسمح الملك لحزب فاسد تولاه رئيس الوزراء السابق بالعودة للحكم بهذه الطريقة، فتعيين الملك محيي الدين ياسين لرئاسة الوزراء لا يقتصر على إزاحة حكومة منتخبة ديمقراطياً، بل يؤشر إلى عودة حزب المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة إلى السلطة، رغم أنه حزب تلاحق الفضائح زعيمه السابق نجيب رزاق.
وتُعد المنظمة الوطنية الماليزية ركيزة لتحالفٍ حكم ماليزيا طويلاً قبل أن يُطاح به في انتخابات تاريخية قبل عامين، بعد اتهامات لنجيب وأعوانه بسرقة مليارات الدولارات من صندوق الاستثمارات (وان إم دي بي) السيادي، ويخضع نجيب حالياً للمحاكمة بهذه التهم.
هل تنتهي حقبة مهاتير أم تتعمق الخلافات السياسية؟
بلا شك، أنه لا يعني أداء محيي الدين ياسين اليمين الدستورية رئيساً للوزراء أمام الملك أن الأزمة السياسية في ماليزيا قد انتهت، فلا يزال هناك تصويت البرلمان على حكومة ياسين، ولو لم يحظ بالأغلبية فقط يعود مهاتير لو نجح في توفير أغلبية في البرلمان في وقت فقد فيه أنصاره في تحالف الأمل.
فمن المعتقد أن استقالة مهاتير كانت مناورة منه الهدف منها توطيد سلطته وإبعاد خصمه أنور إبراهيم، لكنها انتهت بصورة غير متوقعة مع تولي محيي الدين المسؤولية، رغم أن الخلاف الأصلي كان بين أنصار مهاتير، وأنصار أنور محمد، وأصبح الآن بين مهاتير، وياسين، والسلطان.
أنور، من جانبه، تحدث عن وجود “خيانة” داخل صفوف “تحالف الأمل”، لكنه قال: إن مهاتير ليس على علم بتلك التحركات، وهو ما أثبتته تطورات الأحداث بالفعل حتى الآن.
ولأنه لم يعد أمام مهاتير، وإبراهيم سوى عودة تحالفها ضد ياسين والسلطان، فقد أصدرا بالفعل، السبت 29 فبراير، إعلاناً عن توحيد جهودهما مرة أخرى، وطالبا الملك معاً بإعادة تكليف مهاتير بتشكيل الحكومة، إلا أن القصر قال، في بيان: إن الملك اتخذ قراره لأن محيي الدين ياسين يتمتع بالأغلبية البرلمانية.
لكن مهاتير طالب بإجراء تصويت في البرلمان للطعن في مستوى الدعم الذي يحظى به محيي الدين، معلناً أنه يملك تأييد 114 عضواً، وهو عدد أكثر من النصاب المطلوب المقدر بـ112.
والآن بات الأمر في يد البرلمان حين يشكل محيي الدين ياسين حكومته وطلبه الفوز بدعم الأغلبية في البرلمان المكون من 222 عضواً، أي على الأقل دعم 112 من الأعضاء، ولا أحد يمكنه الجزم إذا ما كان ذلك وارداً أم لا، في ظل تصريحات مهاتير، وأنور.
إذ يحظى محيي الدين الآن بدعم أومنو وحزبه بيرساتو -الذي كان يتزعمه مهاتير وأعلن استقالته منه وبالتالي هناك فريق داخل الحزب لا يزال يدعم مهاتير- وحزب إسلامي هو باس، بينما لا يزال تحالف مهاتير-أنور يحظى بدعم أحزاب “تحالف الأمل” باستثناء بيرساتو، وبالتالي سيكون للأحزاب الصغيرة دور محوري في ترجيح إحدى الكفتين في البرلمان.
مهاتير أخطأ الحسابات
بحسب “وكالة الأنباء الفرنسية”، ربما يؤشر تعيين محيي الدين رئيساً للوزراء إلى هزيمة سياسية لمهاتير، وعودة حزب ياسين الذي تلاحقه تهم فساد، إلى السلطة، بعد أن أقدم مهاتير على الاستقالة كمناورة للتخلص من أنور إبراهيم، لكنها أدت لتهميشهما معاً.
ومع هذا فهو لا يزال في الملعب، إذ إن رئيس الوزراء الجديد ياسين تولى في عهد نجيب رزاق منصب نائب رئيس أومنو ونائب رئيس الحكومة، كما عمل وزيراً للتعليم، وفي عام 2015م أقاله نجيب رزاق من منصبه، على خلفية انتقادات وجهها لرزاق فيما يتعلق بقضية الصندوق السيادي الماليزي، كما أن موقفه من هذه القضية أدى أيضاً للإطاحة به من أومنو في عام 2016م.
وبرغم أن محيي الدين ياسين أسس حزباً جديداً، هو حزب بيرساتو؛ أي السكان الأصليون لماليزيا، الذي تولى رئاسته، وقد انضم بيرساتو لاحقاً إلى تحالف الأمل بقيادة مهاتير، وأنور، الذي فاز بانتخابات عام 2018م، وعندما تشكلت الحكومة حصل على حقيبة مهمة وهي وزارة الداخلية، يلعب مهاتير على وتر خلفية ياسين السياسية، وأنه عمل مع نجيب رزاق، رئيس الوزراء السابق المدان بالفساد.
والأسبوع الماضي أعلن محيي الدين انسحاب بيرساتو من التحالف الحاكم والانضمام لأومنو، وهو ما مهد لانهيار الحكومة وفقدانها الأغلبية البرلمانية.
القضية تحولت بالتالي من صراع بين مهاتير، وأنور إبراهيم داخل التحالف الحاكم، إلى صراع أكبر بين مهاتير، وأنور إبراهيم من جهة (ومعهما تحالف الأمل)، والسلطان ورئيس الوزراء الجديد ياسين (من خلفهما الحزب الحاكم الفاسد السابق)، وخطورتها أنها جاءت في وقت حساس يعول فيه الكثيرون في العالم الإسلامي على تحالف دولي إسلامي أقوى تقوده ماليزيا وتركيا وباكستان للتصدي للمؤامرات ضد مسلمي العالم.