يواجه تيار الإخوان المسلمين، والحركات الإسلامية القريبة منه، هجمة غير مسبوقة، وهي متواصلة منذ ظهوره نهاية عشرينيات القرن الماضي، وتحديداً عام 1928م عرف حالات مد وجزر في حالة العداء، عرفت أوجها في محطات تاريخية كثيرة؛ لعل أشهرها ما حدث في أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي في مصر وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي في سورية وتونس وليبيا وبعض الدول العربية الأخرى، وتجدد في أرض الكنانة بعد موجة “الربيع العربي” عام 2011م وتحديداً في انقلاب عام 2013 على الرئيس الراحل محمد مرسي؛ فما الخصائص التي يتميز بها هذا التيّار تجعله محلّ شيطنة واغتيال رمزي للمنتسبين إليه، والتحريض عليهم واستحلال دمائهم وأمنهم وحريتهم وحقهم في الفعل السياسي؟
حملنا هذا السؤال الكبير وما يتفرع عنه من تساؤلات أخرى إلى الباحث في العلوم السياسية والأكاديمي التونسي سامي براهم يجيب من خلال هذا الحوار:
بداية، الدّارس المتبصّر لن يكتشف داخل هذا التيّار ما يميّزه عن غيره؛ فجميع التيّارات السياسيّة بيسارها الماركسي وتفريعاته وقوميّها بانقساماته وليبيراليّيها بنخبه المتعدَدة جميعها كان لها أحلام الحكم، وعرفت انحرافات وانكسارات وتشوّهات، وارتكبت ما يجعلها مثار إدانة سواء كانت في الحكم أم المعارضة.. فلماذا إذن تخصيص تيّار الإخوان بموقف ترذيل عنصريّ تصاعد في الفترة الأخيرة؟
– من نِعَم الله عليَّ أنّني ابن الجامعة التّونسيّة الحديثة، وابن قسم اللغة والآداب والحضارة العربيّة، وتحديداً من الذين درسوا بدار المعلمين العليا بسوسة، حيث كانت دروس الحضارة الحديثة تتناول تيَارات الفكر الحديث منذ عصر النهضة العربية وطيلة القرن التّاسع عشر، درسنا التيار الماركسي والقومي والإسلامي والليبيرالي من خلال أعلامه وأدبياته والسياقات التي خفت بنشأتها، أساتذة أفاضل نشطوا هذه الدروس وفتحوا باب النقاش في العروض وشروح النصّ، هذا وفّر حدّاً من المناعة ضدّ تضخّم الأدلجة في ذلك الوقت وخفف من غلواء الأحقاد، ووفّر حدّاً من الوعي النقدي بتفاوت بين المتلقّين لهذه الدّروس.
درسنا الحركة الإسلاميّة في باكستان وحركة الإخوان المسلمين في مصر منذ نشأتها، ولم يكن هناك ما يشي بما يدعو لموقف عنصريّ تجاه الإخوان، فليس في تاريخها جرائم ضدّ بلد النّشأة تشينها وتجعلها محلّ ترذيل واستقذار، وليس في فكرها المحافظ القابل للنقد ما يدفع نحو البغضاء والعنف وتقسيم المجتمع واستهداف السلم الأهلي، حتّى النزعات العنيفة التي خرجت عن الجسم الأمّ لم تنشأ في رحمه، بل في سياقات خاصّة اتّسمت بشدّة التضييق والتعذيب والانتهاكات في السّجون والمعتقلات والملاحقات الأمنيّة؛ بل إنّ غالب تاريخ هذا التيّار بكلّ امتداداته القطريّة غلب عليه الطّابع السلمي رغم حلم التغيير الشامل لأنظمة الحكم ومحاولات عابرة ومغامرة للمراهنة على العصيان المدني وعسكرة عدد من التحرّكات، وبلغ هذا التوجّه أوجه مع الانقلاب العسكري للجبهة في السّودان.
في كلّ الأحوال، كلّ التيارات السياسيّة العريقة مارست الانقلابات وعسكرت الحياة السياسيّة على امتداد الوطن العربي.. فلماذا هذا الاستهداف الحصريّ للإخوان؟
– الجواب عن ذلك في تقديري يحتاج متابعة محايدة لموقع الإخوان في مجتمعاتهم وموقعهم من أنظمة الحكم؛ حيث بقي الإخوان منذ نشأتهم إلى اليوم، ورغم كلّ ما واجههم من مصائب ومحن وتجارب فاشلة وانكسارات ظاهرة حيّة تستمدّ شروط وجودها من معطيات موضوعيّة وذاتيّة يتداخل فيها السياسي والدّيني والوجداني، وبقيت حركتهم العقبة الكأداء أمام نجاح العديد من تجارب الحكم في بسط نفوذها على الشّعب، بل بقي هذا التيّار ينغّص على الحكّام زهو انفرادهم بالحكم؛ فيسلبهم تارة شرعيّتهم الدينيّة، وتارة أخرى يذكّرهم بوجوده الذي يتميّز بكثافة الحضور الشّعبي مقابل فقدان الشرعيّة الشعبيّة للحكّام لولا تزوير الصّناديق وحكم الحديد والنّار، لكن كلّ ذلك لم يمنع الإخوان من المشاركة السياسيّة والانخراط في اللعبة الديمقراطيّة، بل والانخراط في تحالفات أو علاقة تهدئة مع الأنظمة الحاكمة.
تلقت حركة الإخوان المسلمين سيلاً من الاتهامات والتحريض عليها وتجريمها ما لم تتعرض له حركة سياسية أخرى، علاوة على السباب وكل أنواع الإيذاء.. كيف تفسّر ذلك؟
– سرديّات الترذيل والوصم لا تعكس موقفاً نقديّاً معرفياً من أداء هذا التيّار بقدر ما تعكس الخوف من اكتساحه السّاحة بفضل عمقه الشعبي الذي تفتقده بقيّة التيّارات رغم تمترسها بالحكم أو مؤسسات الدّولة، شيطنة تحرّكها معارك التَدافع والصّراع على الحكم الذي يصطدم دائماً بهذه التيَار؛ لذلك تحوّل استشعار الفشل في إلغائه سياسيّاً وإفنائه أمنيّاً وتدميره اجتماعيّاً إلى شكل من التعويض المعنوي من خلال الشّحن الاجتماعي والاغتيال الرّمزيّ لهذا التيّار وأتباعه وكلّ من يمتّ لهم بصلة، بل توسّع ليشمل من لم ينخرط في سرديّة تخوينهم وترذيلهم وعزلهم، ودعا إلى نقدهم نقداً موضوعيّاً أو دافع عن ضحاياهم.
يتطوّر هذا المكبوت العدائيّ ليصبح موقفاً عنصريّاً؛ حيث يكفي أن يُشيع عنك أحدهم أنّك إخواني في عدد من الدّول العربية؛ حتّى تصبح محلّ استهداف وملاحقة أمنيّة واجتناب من القريب قبل البعيد.
هل وجد هذا في تونس قبل الثورة أو بعدها؟
– كانت تونس بعيدة عن السياقات المشرقيّة التي وصل العداء ضدّ الإخوان أوجه مع الانقلاب العسكري ومجزرة رابعة؛ حيث ساوى الاستبداد في تونس بين جميع التيارات السياسيّة في الاستهداف والانتهاكات، لكن وقع سحب تلك السياقات المشرقيّة على واقع الصّراع السياسي المحلّي الذي كان فيه النّاشطون سياسياً في حجاجهم وخصامهم يسقطون صراعات المشرق على السياق التونسي، ويستأنفون معارك وقعت في دول أخرى لم يكن لها من قبل صدى أو حضور؛ لذلك استعير معجم الصراعات المشرقيّة مثل “إخونجي” لتصبح “خوانجي”، وتعمّق الإسقاط بعد ثورات “الربيع العربي” ليتحوّل إلى تيّار معاد للإخوان على امتداد المنطقة العربيّة يستمدّ وجوده وسنده من عوامل متعدّدة.
من يعادي الإخوان؟ ولماذا؟
– أولاً: الأنظمة التي أصبحت تخشى على وجودها من نجاح التجربة الديمقراطية التّونسيّة التي كان أكبر المستفيدين منها بظنّهم هم الإسلاميّون.
ثانياً: التيَارات المنافسة التي لم تستطع مجاراة الإسلاميين في حضورهم ومناوراتهم وتجاوزهم للصَدمات والأزمات.
ثالثاً: التيّارات الإسلاميّة المعادية للإخوان سواء التي ركبت مركب السّلطة، أو التي انخرطت في مشروع التوحش والإرهاب، أو التي انخرطت في اصطفافات إقليميّة.
رابعاً: السياقات الإقليميّة التي جعلت الإخوان في صفّ الثورات، وتجارب الانتقال الديمقراطيّ مقابل تيَارات ودول رأت في الدّفع بهذا الخيار إلى أقصاه استهدافاً لأنظمة حليفة يرونها صمّام أمان لخيار الممانعة.
هل أثّر القمع على تفكير الإخوان من السلمية إلى العنف ومن الديمقراطية إلى الحلم بتبادل مواقع الاستبداد؟
– كلا.. بقي تيّار الإخوان والحركات القريبة منها رغم التّجارب المحليّة المختلفة والانفصال العضوي عن التيّار الأمّ متمسّكاً بالخيار الدّيمقراطيّ، ليس فقط باعتباره أكبر المستفيدين منه انتخابياً، لكن باعتباره ضماناً لعدم العودة لأنظمة الاستبداد التي كانوا أكبر ضحاياها.
ولعلّ من مفارقات السياسة أنّ التيّار الذي كان يعتبر الدّيمقراطيّة كلمة غريبة عن سياقه التراثي أصبح من أكبر المدافعين عنها وعن مخرجاتها مقابل خصومه الذين طالما نظّروا للدّيمقراطيّة، وناضلوا من أجلها، ولكنهم انحازوا لخيارات الانقلاب وحكم العسكر والتفويض.