كي نفهم السلوك الغربي عامة، والفرنسي خاصة، تجاه منطقتنا والعالم المحيط بها ينبغي أن نلقي نظرة سريعة على الماضي الذي يفسّر التصرفات الغربية، والفرنسية تحديداً.
أذكر منذ أربعين عاماً أنني قرأت عبارة للمستشرق اليهودي «ليوبولد فايس» الذي أسلم وصار اسمه «محمد أسد»، تقول: «إن الروح الصليبية هي التي تحكم أوروبا».
والروح الصليبية لا علاقة لها بالبنية الدينية للمسيحية، ولكنها تتلفع بها وتتكئ عليها وتنطلق منها لتشيع العدوان والنهب والفساد في الأرض؛ فلم يحضّ المسيح عليه السلام على القتل والذبح والتدمير والسلب وقهر الآخرين المخالفين، ولكن الصليبيين اتخذوا من المسيحية أداة لوحشيتهم وهمجيتهم التي طالت العالم الإسلامي والأرثوذكسي على مدى عشرة قرون تقريباً، وللأسف فقد تغذت الأجيال الغربية وتوابعها في أمريكا وروسيا وبقية بلدان العالم على الثقافة الصليبية إن صح التعبير، حيث الإيمان بالقوة الهمجية، واحتقار الآخر، واستحلال أرضه وثرواته والهيمنة على أسواقه، واستخدام الأساليب المحرمة وغير المشروعة لتحقيق ذلك، وفي مقدمتها سفك دماء الأبرياء.
يمكن أن نكتشف جذور الصليبية الوحشية الهمجية في يوم 27 نوفمبر 1095م، حيث ألقى «أوربان الثاني» (أوربانوس الثاني)، بابا الفاتيكان، خطبته في سان مونت كلير بجنوبي فرنسا لتدشين الحرب الصليبية الأولى؛ فقد وصف المؤرخ «جوستاف لوبون» في كتابه «حضارة الغرب» هذه الخطبة بأنها نوبة حادة من الجنون.
ماذا قال البابا في خطبته؟
«يا شعب الله المحبوب المختار، لقد جاءت من تخوم فلسطين، ومن مدينة القسطنطينية أنباء محزنة تعلن أن جنساً لعيناً أبعد ما يكون عن الله قد طغى وبغى في تلك البلاد، بلاد المسيحيين في الشرق، قلب موائد القرابين المقدسة، ونهب الكنائس وخربها وأحرقها، وساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم، وقتلوا بعضهم الآخر بعد أن عذبوهم أشنع تعذيب، ودنسوا الأماكن المقدسة برجسهم، وقطعوا أوصال الإمبراطورية البيزنطية، وانتزعوا منها أقاليم بلغ من سعتها أن المسافر فيها لا يستطيع اجتيازها في شهرين كاملين.
على من إذن تقع تبعة الانتقام لهذه المظالم، واستعادة تلك الأصقاع إذا لم تقع عليكم أنتم، أنتم يا من حباكم الله أكثر من أي قوم آخرين بالمجد في القتال، وبالبسالة العظيمة وبالقدرة على إذلال رؤوس من يقفون في وجوهكم؟ ألا فليكن من أعمال أسلافكم ما يقوي قلوبكم، أمجاد «شارلمان» وعظمته، وأمجاد غيره من ملوككم وعظمتهم، فليثر همتكم ضريح المسيح المقدس ربنا ومنقذنا -الضريح الذي تمتلكه الآن أمم نجسة، وغيره من الأماكن المقدسة التي لوثت ودنست- لا تدعوا شيئاً يقعد بكم من أملاككم أو من شؤون أسركم، ذلك بأن هذه الأرض التي تسكنونها الآن التي تحيط بها من جميع جوانبها البحار، وتلك الجبال، ضيقة لا تتسع لسكانها الكثيرين، تكاد تعجز عن أن تجود بمن يكفيكم من الطعام، ومن أجل هذا يذبح بعضكم بعضاً، وتتحاربون ويهلك الكثيرون منكم في الحروب الداخلية.
طهروا قلوبكم إذن من أدران الحقد، واقضوا على ما بينكم من نزاع واتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس، وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث وتملكوها أنتم، إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها، هي فردوس المباهج، إن المدينة العظمى القائمة في وسط العالم تستغيث بكم أن هبوا لإنقاذها، فقوموا بهذه الرحلة راغبين متحمسين تتخلصوا من ذنوبكم، وثقوا بأنكم ستنالون من أجل ذلك مجداً لا يفنى في ملكوت السماوات».
حركت الخطبة مشاعر المجتمعين، وتدافعوا بالمئات يركعون أمام البابا مثل الأسقف «أدهمير» الذي طلب إلحاقه بالحملة الصليبية، كان الحماس منقطع النظير، وراح المجتمعون يحملون الصلبان ويقسمون على تخليص المدينة المقدسة، وقد وصل عددهم إلى ثلاثمائة ألف، وأوضح «أدهمير»، الذي عيّنه البابا «أوربان الثاني» ممثلاً شخصياً ونائباً عنه، أن الحملة تحت إشراف الكنيسة، بل تحت إشرافه هو مباشرة.
في هذه الخطبة تتكشف أسس العدوانية الصليبية الاستعمارية ضد المسلمين منذ ذلك الحين حتى الآن:
1- العنصرية الفاقعة ضد المسلمين وعدّهم جنساً نجساً معتدياً، يعتدي على شعب الله المحبوب المختار.
2- الاعتماد على الأكاذيب والادعاءات غير الصحيحة لتسويغ العدوان على المسلمين (الطغيان، البغي، قتل الأسرى، تدنيس المقدسات، الاستيلاء على الأراضي..).
3- الرغبة الشريرة في الانتقام اقتداء بالأسلاف العدوانيين وخير من يمثلهم الإمبراطور «شارلمان» وأمثاله من القادة الصليبيين.
4- الادعاء الكاذب بحق الصليبيين في حماية ما يسمى ضريح المسيح الذي لا وجود له أصلاً وفقاً للعقيدة الإسلامية.
5- التلميح إلى ضيق الأراضي الصليبية، وضرورة التوسع في أراضي المسلمين.
6- الطمع في القدس والرغبة في الاستيلاء عليها؛ «إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها، هي فردوس المباهج».
7- ربط القتال والسيطرة على القدس بغفران الذنوب ودخول الجنة؛ «إن المدينة العظمى القائمة في وسط العالم تستغيث بكم أن هبوا لإنقاذها، فقوموا بهذه الرحلة راغبين متحمسين تتخلصوا من ذنوبكم، وثقوا بأنكم ستنالون من أجل ذلك مجداً لا يفنى في ملكوت السماوات».
هل تفعل فرنسا الآن شيئاً غير ذلك، وإن اختلفت المسميات منذ بدأت الحروب الصليبية بقيادة «بطرس الحافي» قبل عشرة قرون؟
بين المرفأ و»إيبدو»
على ضوء الماضي، يمكن أن نفسر سلوك فرنسا ورغبتها الجامحة في الهيمنة على الشرق الإسلامي، والتحكم في مصائر أهله وثرواتهم، بعد أن وصل بهم الضعف أو التدهور إلى الحضيض في المجالات كافة؛ العسكرية والتنظيمية والعلمية والثقافية والاجتماعية، فضلاً عن الأوضاع الاقتصادية المنهارة.
هناك مثالان قريبان للغاية؛ الأول ما يتعلق بانفجار ميناء بيروت (9/8/2020م)، والآخر تعليق الرئيس الفرنسي (2/9/2020م) على ما نشرته مجلة «شارلي إيبدو» من إساءات للرسول صلى الله عليه وسلم.
عقب انفجار بيروت سارع الرئيس الفرنسي، وتلاه عدد من المسؤولين الكبار بزيارة بيروت، وذهب إلى المرفأ (موقع الانفجار) قبل أن تطأه قدم مسؤول لبناني، وتحدث عن ضرورة مواجهة آثار الانفجار وعقْد مؤتمر دولي لدعم اللبنانيين، وتشكيل حكومة لبنانية جديدة تتوفر فيها عناصر العمل الجاد من أجل لبنان ومعالجة مشكلاته الاقتصادية والسياسية، وكانت تصريحاته من هناك توحي أن لبنان مجرد مقاطعة فرنسية يحكمها الفرنسيون وحدهم، وترتب على ذلك أن تقدم نحو ستة وثلاثين ألف لبناني بمذكرة تطالب بإعادة احتلال فرنسا لبلدهم كي تستقيم الأمور! وهو ما أثار جدلاً كبيراً على مستوى العالم العربي.
فرنسا تتعاطى مع لبنان بوصفه «حصتها» في الشرق الأوسط، منذ هندست مع إنجلترا اتفاقية «سايكس بيكو» عام 1916م عقب الحرب العالمية الأولى وتفكيك الدولة العثمانية، ومعاهدة «سيفر» عام 1920م، فصار لبنان وسورية من نصيب فرنسا، التي يعدّها كثير من اللبنانيين «الأم الحنون!» التي أنشأت لهم وطناً يضم الأكثرية غير المسلمة في الشام، وصارت العلاقة بينهما قوية لدرجة أن التلاميذ اللبنانيين يتعلمون الفرنسية بوصفها لغة أم ثانية!
لقد جاء تعليق «ماكرون» على إساءة «شارلي إيبدو» بـأنها حرية تعبير، وأن أي فرنسي يستطيع أن ينتقد رئس الجمهورية، ونسي أن الغرب -بما فيه فرنسا- أصدر قانوناً يمنع الإساءة إلى اليهود ومقدساهم وتاريخهم، ويحرّم التشكيك في المحرقة.
لقد شاركت فرنسا بوصفها رأس حربة في الحروب الصليبية، ومع انتهاء دور محمد علي السياسي بالنسبة لفرنسا، اتجهت نحو المغرب العربي الكبير، لتحتله وتمارس أبشع أنواع القتل والفرْنسة واستئصال الإسلام، واتضحت أبرز جرائمها في الجزائر التي احتلتها عام 1830م، ويوم قرر «ديجول» الانسحاب من الجزائر، وإعلان استقلالها، خلّف وراءه في البلاد حزباً كبيراً يسمى «حزب فرنسا»، وإن لم يكن له صفة رسمية، ويضم نخبة ضخمة من العسكريين والمثقفين والتكنوقراط والتجار وأتباع الكنائس التي زرعوها في البلد المسلم وآخرين، وهو ما جعل الاستقلال شكليا.
استقلال زائف
بينما كانت تمنح فرنسا مستعمراتها أو محمياتها العربية والأفريقية استقلالاً زائفاً، فقد حرصت على أن تكون حاضرة باستمرار في الأحداث المؤثرة وخاصة في المنطقة العربية، لقد وقفت من وراء الكيان الصهيوني الغاصب وزوّدته بالتقنية العلمية المتقدمة، وأسّست لمفاعلين نوويين؛ أحدهما مفاعل ديمونة الشهير، كما سلحت جيش الحرب الصهيوني بطائرات «الميراج» التي حسمت عدوان عام 1956م الثلاثي، ثم عدوان عام 1967م بهزيمة مدوية قصمت ظهر مصر والعرب والمسلمين، وما زالت آثارها المؤذية باقية حتى اليوم، فضلاً عن تسخير الإعلام الفرنسي لدعم الصهاينة وإضفاء الشرعية على جرائمهم في اغتصاب فلسطين وتهجير أهلها والعدوان على العرب وإقرار الأمر الواقع.
قبل عقد من الزمان، تراجع الدور الأمريكي في الشرق الإسلامي، فنشطت فرنسا في عهد «نيكولاي ساركوزي» الذي زار بعض البلدان العربية واستقبل «نتنياهو»، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، ليقوم بإحياء المفاوضات بين الفلسطينيين والمحتلين، لكنه لم يوفق لرفض الكيان الصهيوني الخضوع للقرارات الدولية، ولكن «ساركوزي» كان يسعى إلى حضور فرنسا الإقليمي، فتبنى منذ وصوله إلى الرئاسة الفرنسية مشروع «الاتحاد من أجل المتوسط»، الذي أصبح مشروعاً أوروبياً تبناه الاتحاد الأوروبي لاحقاً لتتحرك فرنسا في مجال أرحب وتفيد اقتصادياً وسياسياً وثقافياً.
لقد تدخلت فرنسا عسكرياً مع الحلفاء الأوروبيين وأمريكا في سورية وأفغانستان، فضلاً عن قيادة الاتحاد الأوروبي لتصفية العقيد القذافي في ليبيا والسيطرة على النفط، وتسعى الآن إلى إبعاد تركيا عن المنطقة، وتحرض ضدها، وتستخدم قواتها المسلحة في مالي وأفريقيا الوسطى لمكافحة الإسلام أو ما تسميه الإرهاب!
أما مجال الهيمنة الناعمة؛ فيتمثل في نشر الثقافة الفرنسية عبر المدارس الفرنسية التبشيرية في المدن العربية الإسلامية، وتقديم آلاف المنح الدراسية سنوياً للطلاب العرب والمسلمين للدراسة في فرنسا !