يمثل العنف إحدى السمات الأصيلة للشخصية اليهودية التي بلورت ذلك العنف في «الأيديولوجيا الصهيونية» التي مارست كل أشكال وأنواع العنف على المستوى الدولي، خاصة العربي – الفلسطيني.
نحاول في هذه المقالة البحث في الأسباب السسيولوجية والنفسية والعقدية التي عملت على غرس وتثبيت هذه الروح العدوانية لدى الشخصية اليهودية الصهيونية –إلى الحد الذي نجد فيه كل مستوطني ومستعمري فلسطين مسلحين سواء كانوا رجالاً أم نساءً أم شباباً– وقد وجدنا أن هناك مصادر تراثية دينية (تلمودية تارة، وتوراتية محرفة تارة أخرى)، يقوم عليها هذا الأمر.
مذابح دير ياسين وكفر قاسم وخان يونس وصبرا وشاتيلا من أبرز النماذج المترجمة لشخصية العنف الصهيونية
التوراة والعنف:
التوراة –كما يشير د. رشاد الشامي– تطبع العقيدة الصهيونية برباط وثيق بين «حرب إسرائيل» و»رب إسرائيل»، حيث يصبح هذا الرب هو «رب الجنود» الذي يمهد لبني إسرائيل السبيل لتحقيق مآربهم في الغزو والاحتلال وطرد الشعوب؛ «ولا يسمع لكما فرعون حتى أجعل يدي على مصر فأخرج أجنادي شعبي بني إسرائيل من أرض مصر بأحكام عظيمة».
ويقول: «الرب يطرد من أمامك شعوباً أكبر وأعظم منك»، ويقول: «الرب إلهك يطرد هؤلاء الشعوب من أمامك، ويدفع ملوكهم إلى يدك فتمحو اسمهم من تحت السماء»، وهو الرب القاسي المتوحش الذي لا يعرف الرحمة بالإنسان أو الحيوان؛ «فحدث في نصف الليل أن الرب ضرب كل بكر في أرض مصر من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الأسير في السجن وكل بكر بهيمة»، «الرب إلهك هو العابر أمامك ناراً أكلة، هو يبيدهم ويذلهم أمامك فتطردهم وتهلكهم سريعاً كما كلمك الرب».
أسست هذه النصوص التراثية الدينية مضامين ومحتويات الدعوة الصهيونية العالمية المشبعة بروح العداء والعنف، كما قامت على هذه النصوص أفكار منظريها ومؤسسي أيديولوجيتها؛ فقد جاء «جابوتنسكي» (1880م)، أحد المؤسسين الأوائل لأيديولوجية العنف الصهيونية، ليؤكد أن دعوته للصهيونية تتخذ من العنف والإرهاب والقوة وسائل لها في تحقيق غاياتها، ويقول: «إننا نجاهد في سبيل تأكيد المفهوم الهرتزلي (هرتزل) القديم ضد عقد المنفى التي تسيطر على زمام الحركة الصهيونية في الوقت الحاضر»، وأخذ يركز دعوته بين الأوساط الشبابية ويدعو الشباب اليهودي إلى «العسكرة»، وانطلاقة «جابوتنسكي» تبدأ من نفس النقطة التي انطلق منها «هرتزل» في حديثه عما أسماه «محنة اليهود»، لذا فهو لا يرى سبيلاً للخروج منها إلا عن طريق «الاستعمار اليهودي وسلطة الدولة اليهودية والقوة العسكرية كأداة لتنفيذ ذلك».
وكان لا بد –وحتماً– تربية النشء اليهودي على مثل هذه الروح العدائية المشبعة بالعنف وتأصيل هذه السمة في الشخصية اليهودية؛ فكان نظام التعليم الذي أصبح مخطِّطاً ومنظِّماً لغرس هذه السمة (العنف) وتلك الروح العدائية؛ فالتعليم في «إسرائيل» يعبر عن فلسفة الدولة ومقاصدها وطموحاتها، لذلك فإن برامج التعليم «الإسرائيلي» تعمل دائماً على تشويه صورة الإنسان العربي وصورة الإسلام والتاريخ الإسلامي من أجل غرس روح العداء تجاه الإنسان العربي في نفوس الناشئة، وقد أثبت البروفيسور «كوهين»، في بحثه المنشور بالعبرية تحت عنوان «وجه قبيح في المرآة»، أن تحليله لمضامين ألف كتاب عبري أثبتت أن هناك صورة مخيفة للإنسان العربي تعرضها كتب الأطفال الصهيونية، وأن هذه الصورة تُظهر العربي في شكل قاتل أو مختطف للأطفال، وأن هذه الصورة مستقرة لدى 75% من أطفال المدارس الابتدائية «الإسرائيليين».
إن هذا التمثيل وغيره لصورة العربي تمثل أسلوباً للشحن العدائي ضد العرب والمسلمين بما يخلق في النهاية شخصية يهودية عدائية لا يمكن أن تتعايش مع أحد غير نفسها، ومن ثم فلا يمكن أن يأمنها –أيضاً- أحد للتعايش معها.
برامج التعليم «الإسرائيلي» تعمل دائماً على تشويه صورة الإنسان العربي والإسلام وتاريخه
الرؤية الصهيونية للواقع:
من دعائم تأصيل عقيدة العنف ما استقر في النفسية اليهودية حول رؤية الصهيوني للواقع العربي والفلسطيني تحديداً؛ فهو يعتقد في المقولة الراسخة لديه بأن فلسطين «أرض بلا شعب»، هذه المقولة التي شكَّلت الإطار الإدراكي والأيديولوجي لكل الصهاينة، واتفق عليها الاجتماع الصهيوني، ففلسطين من منظور صهيوني، هي «إيريتس يسرائيل»/ وطن قومي لليهود، وعلى حد تعبير «ليبرمان»، وزير خارجية الكيان الصهيوني السابق: «إيريتس يسرائيل (أرض إسرائيل) هي المكان الذي وُلد فيه الشعب اليهودي، وهنا تبلورت هويته الروحية والدينية والسياسية، وهنا اكتسب صفة الدولة لأول مرة، وبلور قيماً حضارية ذات دلالة قومية وعالمية، وقدم للعالم سفر الأسفار الخالد (التوراة)»(1).
ومن ثم، فإن كل اليهود لهم حقوق مطلقة فيه، والحقوق المطلقة لا تقبل الآخر؛ مما يعني انعدام الوجود العربي في فلسطين، ومن هنا صدر قانون العودة عام 1950م، الذي وصفه “بن جوريون” بأنه عمود الصهيونية الفقري، وهو قانون يمنح أي يهودي ترك وطنه المزعوم من عدة آلاف من السنين الحق في العودة ليصبح مواطناً فور عودته إليه.
وفي ضوء هذا الاعتقاد المزعوم، ظهرت أسطورة أخرى هي أسطورة الاستيطان، وأحقية كل صهيوني في سكن بهذه الأرض الموعودة، واقتلاع كل من احتلها –من العرب وغيرهم- على حد زعمهم، ومن ثم أضحى كل صهيوني مسلحاً يدافع عن هذا الحق المزعوم بقوة السلاح.
ومما عمق العنف الإدراكي لدى الصهاينة هو تفسيرهم للعقيدة اليهودية، فقد حولوا العهد القديم إلى فلكلور الشعب اليهودي، وهو كتاب تفيض صفحاته بوصف حروب كثيرة خاضها العبرانيون ضد الكنعانيين وغيرهم من الشعوب التي أبادوا بعضها، وهو يفصل فصلاً حاداً بين الشعب اليهودي المقدس! وغيرهم من الأغيار (أي غير اليهود)، بكل ما يتبع ذلك من ازدواجية معايير تجعل الآخر مباحاً تماماً، وتجعل استخدام العنف تجاهه أمراً مقبولاً(2).
مأسسة العنف المسلح:
لم يكن العنف الذي تأسس في وعي الصهيونية الاعتقادي يقوم على التبني الوجداني الانفعالي فقط، بل انعكس في الواقع المادي من خلال تأسيس المنظمات المسلحة التي مارست العنف من أجل تحقيق عملية الإحلال والاستيطان للمحتلين الصهاينة على أرض فلسطين، ومن أقدم المنظمات المسلحة نشير إلى ما يلي:
1- “الهاجانا والبالماك”:
وهي منظمة عسكرية مسلحة جيدة التسليح، تتبع قيادة مركزية في «تل أبيب»، تدعمها قيادات إقليمية ذات فروع ثلاثة تضم نساء في عضويتها، وتتألف على الشكل التالي:
– قوة أساسية تتألف من المستوطنين وسكان المدن، وقدر عدد أفرادها –وقتذاك- بـ40 ألف رجل.
– جيش ميدان يتألف من شرطة الأحياء اليهودية، ويقوم بالعمليات السريعة، ويتألف من قوة قوامها 16 ألف رجل تقريباً.
– قوة على أهبة الاستعداد (البالماك)، مزودة بوسائل نقل، ويقدر عدد أفرادها بألفي رجل في زمن السلم، و6 آلاف في حالة الحرب.
2- “الآرغن زفاي لومي” (منظمة قومية عسكرية):
تأسست عام 1935م من الأعضاء المنشقين عن «الهاجانا»، عملت تحت إمرة قيادتها السرية، وقدرت قوتها –وقتذاك- من 3 – 5 آلاف رجل.
3- عصبة “الشتيرن”:
قدرت قوتها في عام 1939م من 200 – 300 من المتطرفين الخطرين، وقد تعاونت هذه العصابة مع «الآرغن زفاي لومي» تعاونا كاملاً على اعتبار أن الطرفين يتبعان سياسة بالغة التطرف.
ومما يذكر في مسيرة هذه العصابات وغيرها أنها جميعها أو أكثرها تحت قيادة واحدة هي «الوكالة اليهودية» التي جمعت تحت رايتها كثيراً من العصابات المسلحة التي قادت حروبها الأولى ضد الجيوش العربية في فلسطين المحتلة.
وقد شهد تاريخ هذا الكيان الغاصب الكثير من النماذج العملية والمترجمة لشخصية العنف الصهيونية، وهذه النماذج وغيرها سجلها تاريخ الشهداء الذين راحوا ضحية العدوانية والهمجية الوحشية الصهيونية، التي من أبرزها: مذبحة دير ياسين (9 أبريل 1948م)، ومذبحة كفر قاسم بعيد العدوان الثلاثي على مصر، ومذبحة خان يونس (3 نوفمبر 1956م)، وكذلك الكارثة الإنسانية في صبرا وشاتيلا (عام 1981م).
إن نماذج العنف والعداء «الإسرائيلي» لا تُحصى ولا تُعد، وكل يوم يشهد العالم منها ما يشاء وما لا يشاء، إلا أننا نتساءل: هل يحق لنا أن نتصافح مع هذه اليد الملطخة بدماء إخواننا وأمهاتنا وآبائنا وأطفالنا؟ هل يحق لنا أن نتفاوض مع من يستبيح أرضنا وأعراضنا؟ هل يجوز لنا أن ننتظر موافقتهم على إقامة دولة فلسطينية؟! هل يجوز أن نعطيهم شرعية الوجود وهم يعملون على فنائنا يوماً بعد يوم؟!
_______________________________________________________________________
(2) عبدالوهاب المسيري: الأكاذيب الصهيونية من بداية الاستيطان حتى انتفاضة الأقصى، ص 166.