ليس كل من عرف محمداً صلى الله عليه وسلم أحبَّه واتبعه، فالقول بأن الشعوب الغربية لن يتغير موقفها كثيراً إذا عرفت نبينا ليس من التشاؤم؛ بل هو تقرير واقع يفهم طبائع النفس والاجتماع.
المعرفة وحدها لا تدفع صاحبها إلى اتباع الحق وإلا لما كفر إبليس وهو الذي عاش دهراً مع الملائكة
وليس أقرب دليلاً على هذا من كفار قريش، وهم أعرف الناس بالنبي، نعم إن الجهل هو الحاجز الأول، لكنه ليس الحاجز الأهم، والمعرفة وحدها لا تدفع صاحبها إلى اتباع الحق، وها هو إبليس قد كفر وقد رأى من الملكوت ما لم يرَه البشر.
إن بين العلم والعمل حواجز من الشهوات والمصالح التي لا تهدمها إلا مجاهدة النفس، ولذلك «حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات»، كما في الصحيح.
افتتحنا في موضوعيْن، للإجابة عن سؤال: «هل يتغير موقف الشعوب الغربية إذا عرفوا محمداً صلى الله عليه وسلم؟»، الأول: عن «علم نفس الطاعة»، حيث ثبت أن تأثير السلطة في الجماهير يبلغ من القوة بحيث إنها تفضل الطاعة والخضوع مهما كانت قناعتهم بخطأ القرار، وكان ذلك موضوع المقال الماضي.
والثاني: هو سيادة المنهج الوضعي في التفكير والبحث العلمي في الغرب، وهو ما نشير إليه في هذه السطور، وبالله التوفيق.
كان من نتائج اعتناق الغرب للعلمانية سيادة المنهج الوضعي في الحياة العلمية، الوضعية، بتبسيط شديد، هي المقابل والنقيض للمعيارية، ولكن ما هي المعيارية؟
المعيارية هي بمثابة الميزان والنموذج والمِثال الذي نسعى للوصول إليه، نريد مثلاً أن نصل إلى نظام سياسي يحقق العدل ويقوم بالحق وينشر الفضائل، إن تصوّرنا للعدل والحق والفضائل هو المثال والنموذج والمعيار الذي نحاول الوصول إليه، وعلى ضوئه نستكشف القصور والأخطاء والنقص في واقعنا، فنسعى في تحسينه وتعديله، ونكافح في سبيل ذلك أولئك الظالمين والمجرمين الذين يتسببون في هذه الأوضاع الفاسدة ويغلقون طريق الإصلاح، وهكذا، كل دين أو فلسفة أو مذهب، له تصوّره عن العدل والخير والحق والجمال والأخلاق، ومن خلالها اختار شكل الإصلاح والكفاح، ومن خلالها بنى قوانينه وتشريعاته ونظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ما يهمنا هنا أن العلم الصادر عن منظومة معيارية يهتم بدراسة مجاليْن معاً: يدرس «ما هو كائن»، ويدرس أيضاً «ما يجب أن يكون»، ويحاول أن يصل إلى أفضل السُّبُل لإصلاح ما هو كائن كي ينسجم ويصل إلى ما يجب أن يكون.
أما الوضعية، فهي التي تحاول أن تدرس ما هو كائن، وحسب، لأنه ليس لديها أي ميزان أو معيار أو مرجعية لما «يجب أن يكون»، إقصاء الدين نسف وجود ميزان ومعيار، وصار كل شيء مقبولاً وممكناً وطبيعياً.
إذا اكتشفت مجموعة من الرحالة –مثلاً- بشراً لهم عادات وتقاليد وطقوس، سيهتم الرحالة «المعياري» أن يقيس أوضاعهم إلى المعيار والميزان الذي يعتنقه، فإذا رأى أنهم يأكلون لحم البشر فسيراهم قساة، وإذا رآهم يتزاوجون رجالاً ونساء بغير عدد ولا تحفّظ فسيراهم في إباحية وفوضى، وإذا رآهم ينقسمون إلى طبقات تتفاوت في الحقوق والواجبات فسيراهم ظالمين.. وهكذا! أما الرحالة «الوضعي» فلن يرى فيهم إلا قوماً «مختلفين»! لهم عادات وتقاليد وأنظمة «مختلفة»! فليس ثمة ميزان ولا معيار.
هذا المثال المبسط للغاية، وجد تطبيقات خطيرة له في سائر مناحي الحياة الغربية، ومن تلك المناحي: العلم، وأبرز مجالات العلم التي يتضح فيها هذا: الأخلاق، فلطالما كان علم الأخلاق علماً يدرس ما يجب أن يكون، فتحول بمنظور الوضعية المادية إلى علم يدرس ما هو كائن، فالأخلاق في المنهج الوضعي ليست إلا «عادات قوم ما في زمان ما ومكان ما»، ليس أكثر من هذا.
بين العلم والعمل
ومن بين تطبيقات كثيرة وخطيرة لهذا الاتجاه، يهمنا هنا التركيز على الانفصال بين العلم والعمل.
صار مألوفاً في الغرب أن ينفق الباحث عمره في دراسة موضوع، ويصل إلى نتائج مهمة وممتازة، ولكنه لا يرى نفسه مكلفاً باتباع النتائج التي وصل هو إليها، ولا اعتناق الأفكار التي أثبت هو صحَّتها، ولا الكفاح في سبيل ما برهن هو على أنه حق! وكذلك زملاؤه في البيئة العلمية، لا يستنكرون عليه أنه لم يفعل!
رغم أن كتب كثير من المستشرقين فاضت بالثناء على الإسلام وقيمه وحضارته فإن أكثرهم لم يدخل الإسلام
لقد توقف عمل العالِم الباحث عند الفحص والدراسة وجمع الأدلة والبرهنة عليها وتقديم التفسير العلمي، هنا يرى أن المهمة اكتملت، وأما موقفه هو مما توصل إليه فحرية شخصية لا يُسأل عنها!
لقد فاضت كتب كثير من المستشرقين بالثناء على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإنجازه المُعْجِز في تحويل العرب من أمة ممزقة إلى بناة حضارة عظيمة في زمن خاطف، وأفاض كثيرون بالثناء على ما قدَّمه الإسلام من بدائع الأفكار والقيم والتشريعات والقوانين وروائع العلوم والعمارة والفنون، بل إن كثيراً من جوانب عظمة الإسلام لا يلتقطها إلا هؤلاء، لنشأتهم في حضارة أخرى وقدرتهم على المقارنة، إن الذي تعوّدنا عليه لا يثير اهتمامنا ولا نعرف قيمته، ولكنه يبدو لهم بارزاً ومتألقاً ومثيراً للإعجاب، ومع ذلك فأكثر هؤلاء لم يدخل الإسلام!
انتشر في العالم الإسلامي مستشرقون لا يُحصى عددهم، وبعضهم لديه من العلم بالإسلام ما ليس عند أكثر المسلمين، وبعضهم قدَّم رؤى وتصورات عن المسلمين غاية في الدقة والقوة، وأكثرهم لم يُسْلِم.
إن هذا الأمر المقبول تماماً في الواقع الغربي هو من أقبح القبيح في ديننا، إذ يُلزم الإسلام باتباع الحق مهما كانت التكاليف، وبالتضحية في سبيله مهما ارتفع الثمن، والذين يعرفون الحق ولا يتبعونه هم «المغضوب عليهم» وهو أشر الناس، قال تعالى: (كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف: 3)، ولا يمكن لمن أمسك بكتاب في فضل العلم أو آدابه من تراثنا إلا وجد فيه توجيهاً نحو العمل، حتى لقد ألَّف الخطيب البغدادي كتابه الشهير «اقتضاء العلم العمل»، حشده بالنقول من القرآن والسُّنة وكلام السلف الصالح عن ضرورة العمل، وأن العلم إنما يُطلب للعمل.
ونَفَرَ علماؤنا من مناقشة العلم الذي لا يبنى عليه عمل، وأنكروا على من يسأل الأسئلة التي لم تقع ولم تحدث، فالعلم عندهم ليس لتمرين العقول وتنشيط الأذهان، بل هو هداية ونور لإصلاح العقول والقلوب والأبدان، وقد نُقل عن الكثير من العلماء النهي عن العلم الذي لا يُستفاد منه، والاستغراق في الدقائق والمُلَح والنوادر والغرائب التي لا يُنتفع بها.
هذا المنهج القبيح المستنكر عندنا صار هو الطبيعي المألوف في الحضارة الغربية، ولست أحصي عدد المرات التي كنت أقرأ فيها لبعض المستشرقين في بداية تعرفي على كتبهم، فكنتُ أتوقع الواحد منهم سيعلن إسلامه في السطر القادم، من روعة ما يكتبه وقوته، ثم ينتهي الكتاب، ثم ينتهي أجله هو وقد مات كما كان، كأنما لم يعرف الإسلام!
الشعوب الغربية تحتاج أن ترى المسلمين أقوياء أعزاء حتى تتغير نظرتهم للإسلام على الحقيقة
لهذا نقول: إن الشعوب الغربية تحتاج أكثر من «المعرفة» بنبيِّنا صلى الله عليه وسلم، فإنها وحدها لن تنقل أكثرهم إلى الإيمان، بل ولن تثني أكثرهم عن الإساءة له صلى الله عليه وسلم، الشعوب الغربية –والشرقية وسائر الشعوب- تحتاج أن ترى المسلمين أقوياء أعزاء، حينها تتغير نظرتهم على الحقيقة، فإن تعذَّر اجتماع القوة والعزة، فالعزة وحدها قادرة أن تجتذب منهم، فإن العزيز مهما ضعف ومهما افتقر يصير موضع إعجاب وتقدير، وأقل أحواله أن يصير موضع تساؤل واهتمام!
آخر ما تحتاجه الشعوب الغربية أن نخاطبهم بديننا خطاب المستضعف الذليل الذي يتوسل لهم أن يستمعوا وأن يتعرفوا على ديننا ونبينا، إن المبذول مملول، ولذلك قال ابن تيمية في بيان حكمة قتل سابّ الرسول: «الكلمة الواحدة من سب النبي صلى الله عليه وسلم لا تحتمل بإسلام ألوف من الكفار، ولأن يظهر دين الله ظهوراً يمنع أحداً أن ينطق فيه بطعن أحب إلى الله ورسوله من أن يدخل فيه أقوام وهو منتهَك مستهان»(1).
____________________________________________________________________________________
(1) ابن تيمية، الصارم المسلول، ط الحرس الوطني السعودي، ص505.