يحيى عبدالله بن الجف (*)
الضيافة الفاخرة هي ما خلدها القرآن الكريم في مناسبة زيارة ضيوف سيدنا إبراهيم عليه السلام، وبقيت الضيافة، مع اختلاف في البيئات، متداولة بين شعوب الأرض يتوارثونها رغم اختلاف ثقافاتهم وأعرافهم، التي تحدد قيم المجتمعات وتقاليدها التي تُحسِّن لديها الحسن وتقبِّح القبيح، فقد ظلت الضيافة رغم تنوع الشعوب وتعدد بيئاتهم حيوية متداولة متفقا عليها في كثير من مدلولاتها ومراميها في ثقافات مختلفة، وقبل أن نعرض الضيافة وفق النظرة القرآنية الشرعية والطبخة الإبراهيمية.
الضيافة في ثقافات مختلفة
يجدر بنا الإشارة إلى معاني الضيافة في بعض الثقافات القديمة، وكيف أنها كانت ضمن حياة الشعوب وممارساتهم، وهو ما نشير إليه في السطور التالية:
الضيافة لدى اليونان القدماء:
لم تغب الضيافة عن أخلاق قدماء اليونان، فكرم الضيافة ظل من فضائل الأثينيين البارزة، وكانوا يرحبون بالغرباء ولو لم يقدمهم إليهم أحد؛ فإذا جاء الغريب بخطاب من صديق له ولمن جاء إليه، قدم له الطعام والمأوى، وربما قدمت له عند رحيله بعض الهدايا، وكان من حق الضيف المدعو إلى طعام أن يصحب معه ضيفاً غير مدعو، في هذه الثقافة نلاحظ اهتمام اليونانيين القدماء بالضيافة واحترام الدبلوماسية فيما يسمى باحترام الرسول وإكرامه، بغض النظر عن الجهة التي يمثلها، عدوة كانت أم صديقة.
الضيافة في الثقافة الفرعونية القديمة:
كانت مصر القديمة حضارة عريقة مليئة بالتقاليد والتنوع في مجالات عدة، ومنها ما يتم تقديمه في مجال ضيافة الطعام، فكان من ضمن الأطعمة في مصر الفرعونية القديمة الخبز واللحم والقمح والشعير والعدس وغيرها الكثير من الخضار والفواكه، ويتم تقديم أطباق الطعام للضيافة في ثقافة الفراعنة القدماء.
الضيافة الصينية:
يحرص الصينيون على إعطاء الضيف انطباعاً جيداً عن حياتهم وتقاليدهم، في جو من الترحاب والأريحية باعتباره شخصاً غريباً، لا يعرف ثقافة البلد وتاريخه؛ مما يوحي بجمالية الصورة لدى الضيف ليعكسها وقت رجوعه، ويعتبر هذا نوعا من كرم الضيافة في الثقافة الصينية وتقاليدها المتنوعة والعريقة تاريخياً.
الضيافة لدى العرب:
يستمد العربي الجاهلي قديماً مفاهيمه من ثقافته العربية، وما وصل إليه من بقايا دين إبراهيم عليه والسلام، وهو ما طبع لدى العرب بإكرام الضيف في نظري، حيث اشتهر العرب قديماً بإكرام الضيف، واعتبار ذلك مبدأ في الثقافة والعرف العربي، وهو ما جاء به القرآن الكريم، والإسلام يحث عليه ويقره كما سنرى لاحقاً.
أول من أسس مفهوم الضيافة
كان إبراهيم عليه السلام أول من ضيّف ضيوفه، حسبما ذكر ابن العربي في تفسيره للآية (فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) (هود: 69)، قدمه إليهم نزلاً وضيافة، وهو أول من ضيف الضيف حسبما ورد في الحديث، وفي الإسرائيليات أنه كان لا يأكل وحده، فإذا حضر طعامه أرسل يطلب من يأكل معه؛ فلقي يوماً رجلاً، فلما جلس معه على الطعام قال له إبراهيم: “سمِّ الله”، قال له الرجل: لا أدري ما الله، قال له: “فاخرج عن طعامي”، فلما خرج الرجل نزل إليه جبريل فقال له: يقول [الله]: إنه يرزقه على كفره مدى عمره، وأنت بخلت عليه بلقمة، فخرج إبراهيم مسرعاً فرده، فقال: “ارجع”، قال: لا أرجع؛ تخرجني ثم تردني لغير معنى، فأخبره بالأمر، فقال: هذا رب كريم، آمنت، ودخل وسمى الله، وأكل مؤمناً. (ابن العربي، أحكام القرآن، دار العلمية، الجزء 3، الصفحة 20).
بغض النظر عن صحة ما ذكره ابن العربي عن هذه الواقعة؛ إلا أن الذي يعنينا هو أن الضيافة، التي قام بها إبراهيم لضيوف لا يعرفهم -ولو عرفهم لعرف أنهم ملائكة لا يأكلون- فقدم لهم العجل وأكرمهم، وهذا ما ينفي صحة أنه رفض إكرام الكافر مع أنه قام بدعوته لاحقاً كما في الرواية، فلا مستند يمانع إكرام ضيافة الإنسان، وإن اختلف معك في الدين، فلا مانع إذن من ضيافة غير المسلم.
الضيافة الإبراهيمية صوتاً وصورة
نسمع القرآن يصور لنا المشهد في صورة قصصية وفنية في غاية الجمال والتصوير:
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ {24} إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ {25} فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ {26} فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ {27}) (الذاريات).
القارئ للآيات الكريمة في سياق موضوع الضيافة، يشعر بحضور كرم الضيافة بشكل لافت في المشهد التصويري، مقربا لهم مائدة شهية في صياغة طلب المضيف بلطف؛ ألا تأكلون ما قدمت لكم من ضيافة، حيث يوجد عجل مجهز سمين على مائدة الطعام، مما يناسب المقام.
وبعد هذه الحصة في مجال الطبخ وإكرام الضيف، وما قام به نبي الله إبراهيم عليه السلام من إعداد الطعام لضيوفه الكرام، الذين فاجؤوه بعدم فتح شهيتهم للأكل، لم تتغير معاملة المضيف لضيوفه في هذا المشهد الداعي للأكل.
الضيافة ليست سرفاً، فلا يمكن اعتبار الضيافة سرفاً محضاً بدون مراعاة مسألة البيئة والثقافة، التي يتم إصدار الحكم فيها، إذا كان إبراهيم قد قدم عجلاً كاملاً لضيوفه، ولم يعتبر القرآن الكريم ضيافته لهم سرفاً رغم أنهم لم يأكلوا منها؛ لاعتبار الملائكية الذي ينفي عنهم حاجة الإنسان إلى الطعام والشراب.
الضيافة عبادة، والعبادة بمفهومها الشامل تضم قضايا متعددة وقيما إنسانية، ومن ضمن هذه القيم “الضيافة”، وقد تختلف الضيافة وفق الحاجة من مكان لآخر، وتختلف اعتباراتها من منطقة لأخرى، وهو ما يعطيها أحكاماً وفق الفقه الإسلامي.
أحكام الضيافة في الفقه الإسلامي
الرأي الأول: هي واجبة، “ذهب الليث بن سعد من العلماء إلى أن الضيافة واجبة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته يوم وليلة وما وراء ذلك صدقة”. [ابن العربي، أحكام القرآن، الجزء 3، الصفحة 20]، وهذا الوجوب في حال تعذر وجود مطاعم وفنادق تقدم الخدمات للزوار والضيوف.
الرأي الثاني: “ذهب علماء الفقه إلى أن الضيافة لا تجب؛ إنما هي من مكارم الأخلاق وحسن المعاملة بين الخلق، وتأولوا هذا الحديث بأنه محمول على الندب، بدليل قوله: “فليكرم ضيفه”؛ والكرامة من خصائص الندب دون الوجوب” [ابن العربي، أحكام القرآن، الجزء 3، الصفحة 20]، وهذا الرأي هو الأقرب للواقع اليوم في ظل وجود خيارات وبدائل أخرى.
مدة الضيافة: قال صلى الله عليه وسلم: “الضيافة ثلاثة أيام، فإن جاوزها فهو صدقة”، و”كان عبدالله بن عمر إذا زار أحداً أخذ مولاه نافعاً معه، فكان إذا انتهت الثلاثة أيام، قال: يا نافع! أخرج طعامنا من الكيس” [شرح كتاب الإبانة من أصول الديانة، الجزء 65، الصفحة 29].
المطاعم عدوة الضيافة القديمة
في عصرنا الحاضر تختلف مفاهيم الضيافة من مجتمع لآخر، حيث يمكن تقديم حُكم يراعي عصرية الزمان، وتغيره في الضيافة، بحيث إذا نزل الإنسان في منطقة لا وجود فيها لمطاعم، تعين القول بوجوب الضيافة وتأكد، أما حين ينزل في المدن الكبيرة، فإن الأمر يختلف لتصبح الضيافة مسألة اختيارية لا وجوبية على الضيف، فينتقل وجوب الضيافة إلى الاختيار، وهو ما يجعل المطاعم المنتشرة في العالم عدوة الضيافة التقليدية في العصر الحديث؛ لأنها تخرجها إلى طور الاختيارات الفردية والعلاقات الشخصية.
___________________
(*) نقلاً عن “مدونات الجزيرة”.