عندما تراجع العالم الإسلامي وتحولت عوامل القوة منه إلى الأوروبيين استعمرت الإمبراطورية البريطانية العديد من البلدان الإسلامية؛ الأمر الذي أتاح لها التعامل بشكل يومي مع المسلمين، مما زاد من معرفتها بالشعوب المسلمة، واستقطبت منهم أعداداً كبيرة للعمل في أجهزتها المدنية والعسكرية، كما سمحت لأعداد مقدرة منهم للالتحاق بالمؤسسات التعليمية البريطانية، وفتُحت المجال للعمالة من تلك المستعمرات لسد فراغ الأيدي العاملة في مصانعها الإنتاجية المزدهرة آنذاك.
فعلى سبيل المثال، استقطبت بريطانيا أعداداً مقدرة من البحارة المسلمين للعمل في سفن شركة الهند الشرقية التجارية البريطانية من شبه القارة الهندية ومن عدن اليمن والصومال الإنجليزي وجزر المالايا وغيرهم، وكان هؤلاء البحارة يعرفون باسم اللسكريين (Lascars)، ومنذ ُالنصف الأخير من القرن التاسع عشر، بدأ بعضهم يستقر في المدن الساحلية البريطانية، وبدأت تتشكَّل منهم نواة الأقلية المسلمة المستقرة في بريطانيا منذ نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
وفي السياق نفسه، نشط عبدالله كويليام الذي اعتنق الإسلام في مختلف ميادين الدعوة منطلقاً من مؤسسته الإسلامية في ليفربول، واعتنق الإسلام -بفضل الله- ثم بفضل جهوده وجهود مؤسسته ما يقارب 600 من أهل البلد، وغالبيتهم من الطبقة العليا المتعلمة، وظل عبد الله كويليام يواصل مسيرة دعوته إلى أن وافته المنية عام 1922م.
ومن بعده نشطت مجموعة البعثة الإسلامية في ووكنغ (Woking Muslim Mission) ، وكان على رأسها كواجة كمال الدين، وسيد أمير علي، وعبد الله يوسف علي الذي ترجم القرآن الكريم إلى الإنجليزية وآخرون.
وكانت هذه المجموعة من الطبقات العليا المثقفة التي ترعرعت ودرست في ظل الاستعمار البريطاني لشبه القارة الهندية؛ بل إن بعضهم عمل في الأجهزة المدنية الاستعمارية هناك، وكانت لهذه المجموعة معرفة باللغة الإنجليزية والعادات والتقاليد المحلية، ودروب السياسة في بريطانيا، وبناءً على تلك المعرفة للمؤسسة الرسمية والنخب المتعلمة في البلاد، وضعت هذه المجموعة استراتيجية تتناسب مع المجتمع البريطاني تهدف لتوطين الإسلام فيه، وبدأت هذه الاستراتيجية باستخدام الخطاب العقلاني ذي الصبغة العلمية التي كانت سائدة في الغرب آنذاك، وبالاعتماد على وسائل الاتصال المباشرة وغير المباشرة كالمحاضرات واللقاءات والنقاشات العامة، وعبر القالب المعرفي المتمثل في مجلة النشرة الإسلامية والكتب والمنشورات الأخرى التي كانت توزعها، استطاعت هذه المجموعة إزالة الكثير من الشبهات والمفاهيم الخاطئة حول الإسلام والمسلمين في المجتمع البريطاني.
وعلى الرغم من ذلك، هناك أمور تؤخذ على مجموعتي ليفربول ووكنغ؛ حيث كانت هاتان المجموعتان من الطبقة النخبوية الأمر الذي حد من تأثيرهما في الطبقة الغالبية في المجتمع، وهي الطبقة العاملة ونتيجة لذلك فإن المجموعات التي اعتنقت الإسلام من أهل البلد في تلك الفترة كانوا من الطبقة الاجتماعية العليا كعضو مجلس اللوردات هايدلي ومارمادوك وفليبيس الذي سبق له أن عمل في الجهاز المدني في المستعمرات وخاصة في شبه القارة الهندية، والسير هملتون الذي عمل مسؤولاً كبيراً في البحرية الملكية، والمحامي لايدر بروتون، والآنسة زينب كوبولد وآخرين.
على كلٍّ، بدأت معالم المسلمين تظهر في بريطانيا من بداية القرن العشرين من تأسيس مؤسسات إسلامية من جمعيات في شتى المجالات ومراكز إسلامية وغيرها، فعلى سبيل المثال عام 1966م كان في بريطانيا 18 مسجداً، وفي عام 1985م قد وصل عددها إلى 338 مسجداً، وتقدّر المساجد في الوقت الحاضر بأكثر من 2000 مسجدٍ، إضافة إلى مئات من الجمعيات الثقافية والاجتماعية والحقوقية والهيئات الخيرية والمؤسسات الاقتصادية.. إلخ.
التطورات العددية للمسلمين في بريطانيا
يشهد النمو السكاني للمسلمين في بريطانيا تطوراً ملحوظاً خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وتزايدت أعدادهم باستمرار وإن ظهر دورهم وتأثيرهم بشكل ملموس، وعلى الرغم من أن وجود المسلمين كان مشهوداً في شتى مناحي الحياة لم تكن هناك إحصائيات دقيقة موثوق بها في تعدادهم، إلا أنّ هذه الحالة تغيّرت في عام 2001م، عندما أدخلت السلطات في الإحصاء السكان الوطني الرسمي الذي يجرى كل عشر سنوات سؤالاً عن الانتماء الديني، وكان ذلك لأوّل مرة في تاريخ بريطانيا؛ الأمر الذي أفسح عن معرفة تعداد المسلمين، وكان الشيء اللافت في ذلك أنَّ عدد المسلمين من الإنجليز البيض ومن الأقليات الأخرى التي اعتنقت الإسلام في إنجلترا وويلز في عام 2001 وصل 60669، ولا يشمل ذلك عدد المسلمين في أيرلندا الشمالية لأنّها ما زالت لم تُدخل سؤال الدين في إحصاءاتها، وأنَّ عدد المسلمين فيها قليل، لذا قد لا تؤثر كثيراً في تلك الأرقام، على العموم حسب الإحصائيات الصادرة عن مكتب الإحصاء الوطني، فإن عدد المسلمين في بريطانيا كان في أبريل 2001م نحو 1591000 (أي ما يعادل 2.7% من إجمالي تعداد السكان البالغ 58789194).
وفي إحصائيات عام 2011م وصل عدد المسلمين في بريطانيا إلى 2706066 مليون نسمة (أي ما يعادل 4.8% من إجمالي السكان البالغ عددهم 63182000)، ويتوقع أن يزيد عدد المسلمين في إحصائيات عام 2021م التي لم تعلن بعد، وحسب إحصائيات عام 2011م فإنّ 68% من المسلمين في بريطانيا هم من أصول آسيوية و10% من السود الأفارقة والكاريبي و8% من البيض و6% من العرب و4% من الخليط و4% من المجموعات الأخرى.
وطبقاً لإحصائيات عام 2011م فإنّ نسبة الذكور في الأقلية المسلمة تزيد بقليل عن نسبة الإناث 52% مقابل 48%، وتعتبر الأقلية المسلمة في بريطانيا مجموعة شابة، حيث أنَّ 48% من مجموع المسلمين تحت 25 عاماً و88% تحت 50 عاماً من الفئات العمرية، وهذا النسبة تعتبر مرتفعة مقارنة بالنسبة المتوسطة للمستوى القومي والتي لا تتجاوز 31% للفئة العمرية الأولى و65 % للثانية وتعود أسباب زيادة المسلمين إلى ثلاثة عوامل أساسية:
– كثرة المهاجرين المسلمين إلى بريطانيا.
– ارتفاع نسبة الإنجاب للمسلمين.
– الزيادة المطردة للمعتنقين للإسلام من الديانات الأخرى.
على العموم، فإنّ 48% من المسلمين ولدوا في بريطانيا بينما 52% منهم هاجروا إليها غالبيتهم من مستعمراتها السابقة للعمل في مصانعها المزدهرة تبعتهم الطبقات المتعلمة المسلمة من أطباء ومهندسين وصحفيين وكُتَّاب ومعارضين سياسيين، والهجرات الاضطرارية من مناطق النزاعات في العالم الإسلامي، إلى جانب المستثمرين المسلمين من مختلف بلدان العالم الإسلامي.
التنوعات العقدية والفكرية
إنّ الغالبية العظمى من المسلمين في بريطانيا هم من السُّنة مع أقلية معتبرة من الشيعة الاثنا عشرية والإسماعلية والبهرة، كما توجد أيضاً طوائف كالأحمدية والبهائية، إضافة إلى تلك التنوعات العقدية، فإن كثيراً من المسلمين في بريطانيا ينتمون من الناحية الفكرية إلى تيارات فكرية متعددة، من أبرزها: أتباع الحركات الإسلامية وأغلبها مستوحاة من الموطن الأصلي لهذه الجماعات خارج أوروبا ابتداء بالإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية، وأتباع المدرسة السلفية، والتبليغ، مروراَ بشبكات الطرق الصوفية، وأتباع بعض العلماء المسلمين، وانتهاءً بالحركات والجماعات المتشددة مثل حزب التحرير وغيره.
الانتشار الجغرافي والتوزيع الوظيفي للمسلمين
جغرافياً، تنتشر الأقلية المسلمة من بلفاس في أيرلندا الشمالية إلى جلاسقوا وأدنبرا في سكوتلاند، وكارديف في ويلز ولندن، برمنغهام ليفربول، مانشستر، ليدس، برادفورد، ليستر في إنجلترا وغيرها من المدن، ويكاد اليوم لا تخلو مدينة في المملكة المتحدة من المسلمين، وسياسيا تحولت الأقلية الإسلامية في بريطانيا إلى كتلة انتخابية مهمة بفضل تزايدها الديمغرافي وانتشارها الجغرافي، حيت يؤثر المسلمون في الوقت الحاضر تأثيرا مباشراً في 80 دائرة انتخابية برلمانية وفي عشرين دائرة منها هم كتلة انتخابية كبيرة مهمة، بل في البعض منها يمثلون الأكثرية كمنطقة هودج هيل في برمنغهام.
ومن الناحية الوظيفية ينشطون في القطاعات المختلفة في البلاد، مثل: القطاع الصحي، والتعليم وفي سوق المال والأعمال، وغيرها من المجالات الحيوية في مجال الحياة العامة في بريطانيا.
____________________________________
(*) باحث في العلاقات الدولية ومهتم بشؤون الأقليات المسلمة في الغرب.