تبقت في ذاكرتي حكاية لم تسرد بعد؛ الموتى يزورون القرية في ليالي العتمة، يتسللون من أكفانهم البيضاء، يأتون في ثياب جديدة، إن لهم نصائح لما يقدموها لمن خلفهم، يسري الليل وفي الشتاء حين تشتد الريح، تتوالى الطرقات على الأبواب، تموء القطط، نحن لا نضربها، إنها ترى العالم الآخر، ثمة أسرار لا نحيط بها، الجن يسكن معنا، إنه يرانا من حيث لا نراه، كلما جاء الشتاء انزويت في فراشي، وضعت تلة من أغطية الصوف التي توارثتها عن أجدادي، كل واحد ترك لي غطاء، وهكذا صار لدي ركن مملوء بها، مسابح وشيلان وجلابيب، وحتى ألقاب لا تحصى فقد انتهت إلى وراثة الأهل، لا أدري ما الذي أيقظني الساعة لأسرد عليكم تلك الحكاية؟
في كفرنا أعرج يدب بعصاته بين الشوارع، لا تخفى عليه شاردة: امرأة مطلقة أو عزباء فاتها القطار؛ يتسمع نأمة النملة اليتيمة أو جني الجحر الذي حبسه سيدنا سليمان عليه السلام، في كل حديث له حكاية، اختفى زمنا ثم عاد؛ بعضنا يراه محتالا يلعب بالبيضة والحجر، تخوف الأمهات صغارهن من طلعته مقدم الليل، مكثت حارتنا سنين لا يدري أحد بما يمور داخلها.
على كل مللت النوم تحت تلك التلة من صوف ملبد برائحة الغنم، الانزواء في زمن المتاهة لا يجدي، والاكتفاء بمضغ الأسرار التي تركها الراحلون لن يمنع الصغار من أن ينبشوا عن مفتاح لحل اللغز الذي عجز الحكماء عن فك شفرته!
ركب الناجي حماره، والحرافيش حوله يفسحون له الطريق في موكب مهيب، كأنما اجتمع له مجد الملك وسطوة القوة، رغم مرآه الموحي بالسلطة؛ إلا أن له هيئة بسيطة؛ ثوبه رقعة تغطيه كأنما هي في عراك معه، يهتف به الأتباع منقذا، ويعقد له الدراويش ولاية ومقاما، عمامة خضراء فوق رأسه، تتدلى من رقبته مسبحة خشبية طويلة، حباتها تقارب المائة عدا، له عضلات مفتولة، ومعه عصا خشبية تطول شارد الحرافيش!
أميرهم دون إمارة؛ حامي الحمى !
مملكة في الأرض وما الممالك غير سياج من قوة وسلطة مطاعة!
يطلبونه ليحميهم وهم المدفوعون بأبواب السادة هملا، يجوبون الحواري والأزقة، عندهم أجولة من كسرات خبز مهترئة، وبأبوابهم كلاب تجلس بالوصيد!
الفقر غطاء بيوت من طين، ويا ليت لهم من الحياة الزاد!
لهم كتاب يخطون كل يوم به سطرا من رق، مداده تشرد، وقلمه من ذل ممدود!
منذ ساعة زارتني الجدة الكبيرة خضرة، حين تأتي إلي في المنام أسعد كثيرا، أخبرتني أن زوجتي ستلد مثل فلقة القمر بنتا، أمي تقول إن الأنثى في المنام خير سيأتي، هذه بداية لحديثها، أما الذي على نقيضه فهناك عيون زرقاء تتوارى خلف تلة جادو المسكونة عند وابور الطحين، نزف العمدة الأخير حتى ساح دمه في “بئر الغريق”، يقف المندوه ساخرا، ومن خلفه حية تسعى، كلما نزف تراقصت، مخمور بالنشوة، مسكون بالرغبة الآثمة، واقعها في طرف من جدار متهدم، تقيأت، ففي الظلام يتحرك الشيطان، حتى إذا ما جاء الصباح، صاح المنادي: لقد كانت حكاية غريب عبر إلى هنا منذ ما يقارب المائة عام، للأجداد حتى وهم موتى ذاكرة، لن تصدقوا ما أقوله لكم، في كل شتاء أضع عباءتي اليتيمة، لا أدري لم امتلكت واحدة فقط، إنها مثل وجه المنخل عبث بها فأر الخزانة، أشتملها وأطوف على الأمكنة في الظلام، أقتات من أفواه الحجر، ومن خربشة أوراق الكافور الذي يسكن عند ضفة النهر، أخبرتني الخالة فاطمة.. لا تعرفونها.. إنها تجاورنا منذ قرن من العمر، تقول أمي إنها طيبة حين كنت صغيرا أسرق منها الحكاية وراء الحكاية، تضحك ربما تسعد بهذا، في قريتنا تنال المكانة بالسن، وفي أحيان بالعصا، تبقت لدي نتف من أسرار لم يحن أوانها، فالموتى يستعدون لمغادرة المكان، الخفراء يجوبون الشوارع، يمسكون بالصغار يبحثون عن بطاقة هوية تثبت أنهم من هنا، أما يكفى الوجه واليد واللسان والقلب انتماء، فررت منهم لما خفتهم، إنهم مصابون بالبله، لن تبقى لي أدلة انتماء غير حكاية جدتي، وحدي مصاب بمتلازمة السرد، اكتفى الآخرون بمولد سيدي الدسوقي، تقول جدتي: مولد وصاحبه غائب!
يسكن السرداب المار من تحت كفرنا حتى “صان الحجر”، الموتى يعرفون هذا النفق، به ذهب وياقوت ومرجان، على بابه حارسان، من كان شجاعا مر من بينهما، يحتاج السر لقلب طفلة صغيرة مثل فلقة القمر، صحوت مذعورا؛ لا أريد المال ولا الكنز، فقط أحتاج أن أكون إنسانا، لترحل حكاية الجدة دون رجعة.
يعبث فأر في خزانة الطعام؛ أستعيد نصائح جدتي الخضراء؛ أردد أدعية المساء؛ يغفو القمر وحيدا، تتسلل فتاة الحلم بعيدا، أعدو خلفها فتلتفت ناحية التلة ومن ثم يتراقص شعرها ويتماوج على ضوء القمر الفضي!