من فضل الله سبحانه وتعالى ومنّه علينا أنْ جعل لنا في أيام دهرنا محطات إيمانية تهب فيها نسائم الجنة وتتنزل فيها سحائب الرحمة، وتهب نفحات نتزود منها بالإيمان والتقوى، ويعرض المولى عز وجل الصفقات الرابحة لمن يشترى، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: “افعلوا الخيرَ دهرَكم، وتعرضوا لنفحاتِ رحمةِ الله، فإن لله نفحاتٌ من رحمته يصيبُ بها مَنْ يشاءُ مِنْ عباده” [رواه الطبراني].
ومن هذه النفحات الإيمانية والصفقات الرابحة عشر صفقات يعرضها الله عز وجل علينا في شهر رمضان، مع تهيئة الأجواء للسوق القائمة على مدار ثلاثين يومًا لتربح قدر ما تستطيع ففيه تكون أبواب السماء مفتحة ترفع الدعوات المستجابة بإذن الله كل يوم عند الفطر، وتكون أبواب النيران موصدة، والشياطين مصفدة، وتسود الأجواء الإيمانية لنيل المغفرة والرحمات حتى يفوز المؤمن الرابح بالعتق من النيران.
سباق الخيرات
ورمضان نعمة لا يستشعرها إلا العابدون، ولا يشتم عبقها إلا المخبتون، ولا يعايش أجواءها إلا التائبون الأوابون، وهو هبة الله لهذه الأمة، وعطيته لأهل الملة والصوم درة رمضان، وشعار أهل الفضل والإحسان. وعلينا أن نحسن الاستعداد له؛ و”من الخطأ تصور الاستعداد بأنه تدبير النفقات، وتجهيز الولائم للأضياف، إن هذا الشهر شُرع للإقبال على الله، والاجتهاد في مرضاته، وتدبر القرآن، وجعل تلاوته معراج ارتقاء وتزكية، إنه سباق في الخيرات يظفر فيه من ينشط ويتحمس” [الشيخ محمد الغزالي].
وروي عن الحسن البصري أنه مر بقوم يضحكون ويلهون فوقف عليهم وقال: “إن الله تعالى قد جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه بطاعته، فسبق أقوام ففازوا، وتخلف أقوام فخابوا، فالعجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون، أما والله أنْ لو كُشف الغطاءُ لشُغِل محسنٌ بإحسانه ومسيءٌ بإساءته..”.
رمضان جُنَّة المحاربين
يقول ابن القيم رحمه الله عن الصوم: “هو لجام المتقين، وجُنَّة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لربّ العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئاً، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها، إيثاراً لمحبة الله ومرضاته، والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده فهو أمر لا يطلع عليه بشر، وتلك حقيقة الصوم. وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة وحمايتها من التخليط الجالب لها المواد الفاسدة”.
وقبل دخول هذا الشهر المبارك سنعرض لعشر صفقات رابحة إذا اغتنمها المسلم في رمضان فقد فاز وربح بإذن الله، وهي:
الصفقة الأولى: الفوز بالعتق من النيران من أول ليلة
فعن أبي هريرة رضى الله عنه قال : قال النبي ﷺ: “إذا كان أولُ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ صُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدةُ الجنِّ، وغُلِّقتْ أبوابُ النارِ فلم يُفتحْ منها بابٌ، وفُتِّحَتْ أبوابُ الجنةِ فلم يُغلقْ منها بابٌ، ويُنادي منادٍ كلَّ ليلةٍ : يا باغيَ الخيرِ أقبلْ، ويا باغيَ الشرِّ أقْصرْ، وللهِ عتقاءُ من النارِ، وذلك كلَّ ليلةٍ” [أخرجه الترمذي وابن ماجة]، فجدد نيتك من أول ليلة في رمضان لفعل الخيرات، وتجنب الشر والمنكرات لعلك تكون ضمن عتقاء الليلة الأولى من شهر رمضان وهذه أولى الصفقات الرابحة في رمضان.
الصفقة الثانية: صيامه وقيامه احتساباً مقابل مغفرة الذنوب
يقول الرسول ﷺ: “من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه” [رواه أبو هريرة في مسند البزار].
فالشروط في هذه الصفقة واضحة ومحددة بشرطين، ففي الصيام لا بد من “الإيمان والاحتساب” إيماناً بالله ووعده وما أعده من الأجر العظيم فيه، واحتساب النصب والتعب الذي يلاقيه المسلم جراء الصيام والقيام ابتغاء مرضات الله تعالى.
فلا تصوم لأن الناس والمجتمع صائم فتجاريهم، واحذر أن تؤدي العبادة كعادة، فالاحتساب هو الطريق لنيل المغفرة لقوله ﷺ: “غفر له ما تقدم من ذنبه”، وكذلك قيام رمضان لقوله ﷺ: “من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه” [رواه أبو هريرة – صحيح النسائي].
الصفقة الثالثة: عمرة في رمضان تعدل حجة
عن عبدالله بن عباس، قال ﷺ: “عمرة في رمضان تعدل حجة”، وفي رواية: “حجة معي” [صحيح ابن حبان]، وإن كانت ظروف جائحة كورونا قد تحول دون أن ينالها الكثير فلها عوض في ظروف الحظر التي نعيشها هذه الأيام وهي قول النبي الكريم ﷺ: “من صلّى الفجر جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلّى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة” [أخرجه الترمذي والبغوي في شرح السنة والألباني في صحيح الجامع].
الصفقة الرابعة: مضاعفة الحسنات في الفروض والسنن
ورد في صحيح ابن خزيمة وغيره من حديث طويل فيه: “أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، من تقرب فيه بخصلة من الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى فيه سبعين فريضة فيما سواه”[1].
ونحن في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وقد قال العلماء أن الحسنات تتضاعف بحسب الأزمنة والأمكنة الفاضلة. فعلينا أن نغتنم هذا الزمان الفاضل بالالتزام بالفروض والسنن الرواتب دون تهاون أو تقصير.
الصفقة الخامسة: ختمات القرآن.. اقرأ ورتل وارتق
تلاوة كتاب الله تعالى عبادة عظيمة يحصل المسلم بسببها على أجور عظيمة، ففي صحيح مسلم قال ﷺ: “اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه”.
وفي سنن الترمذي وغيره من حديث عبدالله بن مسعود قال: قال ﷺ: “من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف”.
وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال: يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها. [صححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير].
وإذا كانت القراءة برمضان فتتضاعف لشرف الزمان، وكان من عادة السلف العكوف على قراء القرآن في رمضان، فورد عن الإمام الشافعي أنه كان يختم القرآن في شهر رمضان ستين مرة، وهذ أصح إسناد عن الشافعي كما قال أهل الحديث.
الصفقة السادسة: دعوة مستجابة كل يوم عند الإفطار
عن عبدالله بن عمرو قال رسول ﷺ: “للصائم عند فطره دعوة لا ترد” [حديث: حسن-أخرجه البيهقي في شعب الإيمان]، فيغتنم المسلم هذا الوقت فيدعو لنفسه وأهله ولأمة الإسلام ويسأل الله من خيري الدنيا والآخرة.
الصفقة السابعة: تفطر الصائمين تأخذ أجورهم
لقوله النبي ﷺ: “من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء” [أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط]، فليحرص المسلم على تفطير المساكين والفقراء والمحتاجين والأصدقاء والأقارب وذوي الرحم والأصهار.
الصفقة الثامنة: الصدقة والزكاة والجود مقابل أجر كريم
الصدقة من أشرف الأعمال وأفضلها، حث الله عليها في كتابه العزيز فقال جل من قائل: (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [الحديد:18]، وقال: (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) [الحديد:11]، ولما للصدقة من ثمار عظيمة فلقد حث عليها المصطفى ﷺ في مواضع كثيرة من سنته وبين أن الصدقة لا تنقص المال أبداً، بل تزده ما نقص مال من صدقة بل تزده بل تزده بل تزده وإذا كانت الصدقة في رمضان فقد اجتمع لها شرف الزمان ومن المعلوم أن الأعمال الصالحة في شهر رمضان تتميز عنها في سائر الشهور، وكان النبي ﷺ جواداً وكان أجود ما يكون برمضان حين يلقاه جبريل.
الصفقة التاسعة: قيام ليلة القدر خير من ألف شهر
قال الله تعالى عنها (خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ {3}) (القدر)، وقال ﷺ: “من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه” [أخرجه البخاري ومسلم].
والمسلم إذا أراد فعلاً قيام هذه الليلة وهو مطمئن أنه أدركها، فليقم كل ليالي رمضان وليلتمسها من ليلة التاسع عشر، فإن فعل ووفق لذلك فسيدركها بإذن الله تعالى.
الصفقة العاشرة: الاعتكاف لإصلاح الآفات
الاعتكاف في الشرع: لزومُ المسجدِ من أجل التّعبّد لله تعالى، بضربٍ أو أكثرَ من ضروب العبادة المشروعة، كالذّكر وتلاوة القرآن والصلاة والتّفكّر! وهو من العبادات التي حرص عليها الأنبياء، لقوله تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ) [البقرة: آية 125].
وكان النبي ﷺ يعتكف العشر الأواخر من رمضان. فإذا احتسب المسلم واعتكف ولو يوماً واحداً، ونوى بذلك أنه يحيي سنة مندثرة لحصل بذلك أجر الاعتكاف وأجر إحياء السنة.
ويقول الإمام ابن القيّم: “لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى، متوقفاً على جمعيته على الله، ولمِّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإنَّ شعث القلب لا يلمُّه إلا الإقبال على الله تعالى! ولا يتحقق ذلك إلا بالاعتكاف، وقال ﷺ: “من سن في الإسلام سنة حسنة كان له مثل أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة” [أخرجه الألباني في صحيح الجامع].
وذهب الفقهاء إلى أنّ الاعتكاف في رمضانَ، في العشر الأواخر منه: سنّة مؤكّدة، لمواظبة النّبيّ ﷺ، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها «أنّ النّبيّ ﷺ كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتّى توفّاه اللّه تعالى، ثمّ اعتكف أزواجه من بعده»
وارتفاع مرتبة الاعتكاف في رمضان من أن يكون (سُنّة)، إلى أن يكون (سُنّة مؤكّدة) يرجع إلى ما يتميّز به الاعتكاف في رمضان من الميزات الواضحة، لاقترانه بالصّوم الواجب، وهو صوم الفريضة، وبالتالي يكون المعتكف أكثر قدرةً بإذن الله على تحقيق أهدافه من الاعتكاف، المتعلقة بتحقيق العبودية، ثم محاربة “أنواع الفضول الأربعة: فضولُ: الطعام والشراب، الكلام، الخُلطة، المنام”.
ختامًا:
لتعلم أيها التاجر الحصيف أن سوق رمضان فيه المزيد من الصفقات الرابحة وليس هذه الصفقات فحسب، وإياك أن تخرج منه خاسرًا أو شقيًا أو محرومًا لقول جبريل عليه السلام لرسول ﷺ: “.. شَقِي عبدٌ أدرك رمضان فانسَلَخ منه ولم يُغفَر له، فقلت: آمين..” [ قال الحاكم: صحيح الإسناد ووافَقَه الذهبي]، ومن هذه الصفقات الحصول على تكفير الذنوب الماضية ما بين الرمضانيين فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ كان يقول: “الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر” [رواه مسلم].
ولتعلم أن الصوم جزاؤه لا حد له: فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: “.. الصيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها” [رواه مسلم].
فمضاعفة الأجر في شهر رمضان، ومعرفة الثواب الجزيل، يبعث في النفوس الرغبة والعزم على فعل الخيرات، والطاعات، ويحميها من الضعف، والكسل، والتهاون والمعصية. [رواه البخاري ومسلم].
_____________________________
[1] وقد ضعف الحديث جمع من أهل العلم، ويدل على ذلك تبويب ابن خزيمة للحديث بقوله: باب فضائل شهر رمضان إن صح الخبر، وقد قال بعض العلماء بمضاعفة ثواب الأعمال على هذا النحو مستأنسين بهذا الحديث، والذي لا شك فيه أن الطاعة في الشهر لها مزية وثوابها فيه مضاعف.