لم يكن انقلاب قرطاج، مساء الأحد الخامس والعشرين من يوليو 2021، أمراً مفاجئاً لمن يتابعون ما يجري في المنطقة، ولم يكن التنكيل بالإسلاميين معنوياً ومادياً أمراً مستبعداً، بالمقارنة مع التجارب السابقة التي تم فيها إهدار الشرعية، واستخدام العنف ضدهم قتلاً وسجناً ومطاردة وتشهيراً وتشويها بالكذب الفاجر، والادعاء الظالم، ووحشية القوة العمياء! حتى صارت مقولة: إن تاريخ الانقلابات العسكرية في البلاد الإسلامية يقوم على إهدار الشرعية الدستورية سبباً والموت في السجن والغربة مصيراً، صادقة وصحيحة.
لقد نجح الغرب واليهود في تحويل الإسلام إلى فزّاعة تجلب الرعب والخوف والحرمان إلى صاحبها، وتستنفر شرار الخلق في كل مكان ما لم يخضع المسلم للإرادة الشيطانية التي تجعله يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، وفي خضوعه يمكن أن يكون أيضاً فريسة مستباحة لرغبة شياطين الإنس وأمزجتهم باعتقاله أو فصله من عمله أو تسويقه رمزاً للإسلام الظلامي الأصولي المتخلف الرجعي!
طرائق قدداً
نجح الغرب واليهود بعد إسقاطهم للخلافة العثمانية في تحييد الإسلام، وإلقائه خلف ظهور المسلمين الذين تفتتوا طرائق قددا، وصار من يؤمن بالإسلام بوصفه دين الأمة وتشريعها ومصيرها ومستقبلها؛ خارج التاريخ والجغرافيا والحياة، ومن ثم تحقق النجاح الأكبر في تشكيل نخب من الأقليات تتمتع بكل شيء، وتحيا محصّنة ضد المؤاخذة أو المحاسبة، وتحكم بالحديد والنار، وتستمتع بالنفوذ والجاه والمال والمناصب، وتحتكر الوظائف المهمة، وتحرم الأكثرية الساحقة من كل امتياز، اللهم إلا من التحق بذيل الأقلية خادماً رخيصاً مهيناً بائعاً دينه.
حظيت الأقليات المهنية والفئوية والطائفية والمذهبية والعرقية بكل شيء، وتركت الأكثرية تعاني، وتشكو، ويتم التنكيل بها إذا طلبت حقها في الحرية والعدل والكرامة والمساواة، واسألوا الجهات التي شهدت الربيع العربي وما جرى لها من قهر وتنكيل وتهجير وتشهير وقتل وتغييب وراء الأسوار، وكان آخرها ما جرى في تونس، حيث انتهى أمر الإسلاميين على يد من جاء به الربيع العربي رئيساً، وقد كان مجهولاً لا يعرفه أحد ولا تأثير له حتى في مجاله الأكاديمي!
من الطبيعي أن يكون “الربيع العربي” الذي انطلق من تونس مزعجاً للأقليات التي غنمت كل شيء، فسحقت “الربيع العربي” وحولته إلى شتاء بارد قاس، وباركها الغرب واليهود والمتهوّدون الذين بطروا النعمة وأنفقوها فيما حرم الله.
منع الأذان
أنفق الأشرار على التشهير بالإسلام والمسلمين أموالاً لا تحصى، ووجهوا منصات إعلامية وثقافية وفنية لتدك معاقل الإسلام بالباطل، وتنفر الناس منه، والمفارقة أنهم يتعاطفون مع أصحاب الملل الأخرى، ويبنون لهم المعابد والكنائس، ويرممون معابد اليهود التي لا يصلي فيها أحد، بينما هؤلاء قد حولوا مئات المساجد في فلسطين المحتلة إلى ملاه ليلية ومراقص ماجنة ومخازن بائسة وخرابات تملؤها الزبالة والمخلفات، ووصل بهم الإجرام حد منع الأذان في المساجد العامرة!
ومن المحزن أن الأقليات الثقافية الجائرة في بلادنا العربية المستباحة يقودون حملات التشهير ضد الإسلام والمسلمين بينما يجأرون بالتعاطف والوقوف إلى جانب غير المسلمين ولو كانوا ظالمين، تأمل قسوتهم ووحشيتهم حين يذكرون الإسلام والمسلمين وحنانهم ورقتهم عندما يتناولون غيرهم، وصار بعضهم متخصصاً في الإشادة بكل ما يصدر عن خصوم الإسلام، لدرجة أنك تجد على مدار الأسبوع مقالات تشيد بكهنة متواضعين أو يهود مجهولين، أو بوذيين يعيشون في آخر العالم ولا يسمع عنهم أحد!
بن علي رجع!
تلك الأقليات تمكنت بفضل التوجيه الأجنبي من صناعة أجيال تكره الإسلام والحياة، وكان انقلاب قرطاج الذي قادته الأقلية العلمانية شهادة وفاة للحرية والديمقراطية في تونس وبداية عهد مزعج للإسلام والإسلاميين، وحين تردد قبل عشر سنوات هتاف كهل تونسي في شارع الحبيب بورقيبة: “بن علي هرب، بن علي هرب”، وهتاف آخر: “هرمنا!.. هرمنا!” ظن الناس أن الأمور في تونس الخضراء تسير نحو النموذج والمثال، وأن المسلمين في بلد مسلم ينالون حقوقهم الإنسانية، لكن الهتاف انعكس بعد انقلاب قرطاج: “بن علي رجع.. بن علي رجع!”.
لم يتصور أحد أن رجل القانون الذي جاءت به الثورة رئيساً يخطط كما نشرت “ميدل إيست آي” قبل شهرين تقريباً لانقلاب عسكري سافر، معتمداً على مظاهرات “تمرد” التونسية في ذكرى الجلاء الفرنسي عن تونس، ويقف في قصر قرطاج بين صفين من عسكر الجيش، وعسكر الشرطة، ويخرق الدستور، ويجمد مجلس النواب، ويرفع الحصانة عن أعضائه، ويقيل الحكومة، ويعلن عن دمويته، وإطلاق الرصاص على من يعارض قراراته غير القانونية؛ “مَن سيُطلِق رصاصة واحدة في سياق الاعتراض على هذه القرارات سيُواجَه بوابل من الرصاص من القوات المسلحة والأمنية ليس له حصر”(!)، ثم ينصب نفسه نائباً عاماً لمقاضاة التونسيين الذين لا يعجبونه، ويفرض حظر التجول ويمنع اجتماع أكثر من ثلاثة أفراد في مكان واحد، ويوقف العمل في الحكومة والمصالح والهيئات، ويغلق مكاتب القنوات الإخبارية دون سابق إنذار، ومقرات حزب النهضة الإسلامي، ويترك البلطجية يحرقون بعضها دون أن يحاسبهم أحد، ويأمر الجيش بغلق مجلس النواب بدبابة.
الخطر الداهم
لقد زعم أن الانقلاب لمصلحة الشعب! وأنه لمواجهة الخطر الداهم! فما الخطر الداهم؟ هل هو الجيوش الجرارة التي تداهم البلاد؟ هل هي الفيضانات والسيول والمجاعة؟ هل هو الوباء الذي يفتك بالملايين؟ كل ذلك لا يسوغ الانقلاب، ولكنه الإسلام الذي يريد من خطط للانقلاب إزاحته، واستئصاله، ولذا فسر الفصل (80) من الدستور على هواه ليكون حاكماً دكتاتورياً، ينتزع سلطات الحكومة والبرلمان والقضاء ويعلن نفسه حاكماً أوحد، ويهيئ نفسه لمجازر وترويع كما فعل إخوة له من قبل، بعد أن احتجز رئيس الوزراء الذي تعرض للضرب المبرح ليقبل الاستقالة، ومع نفي الأخير لتعرضه للأذى، لم يستطع الظهور أمام عدسات التصوير بعد إطلاق سراحه!
الخطر الداهم إذاً هو الإسلام، أو من يمثلون الإسلام الذين يرى الأشرار ضرورة التخلص منهم كما جرى في بلاد عربية أخرى، وهو ما دلت عليه المظاهرات المدفوعة، وبيانات بعض القوى التي ترفض الإسلام والديمقراطية، وفي مقدمتهم الناصريون والبعثيون واللصوص الكبار، وكان على الجنرال الذي يحكم بزي مدني أن يراوغ القوى والجهات الرافضة لانقلابه المشين وهي الأكثرية السياسية والقانونية، بكسب الوقت، والحديث عن المسار الديمقراطي، ليتمكن من تنفيذ خطته الجهنمية بسحق الإسلاميين، والتخلص منهم مع ما قدموه من تنازلات وهم يمثلون الأكثرية المنتخبة من قبل الشعب.
جرأة غريبة
يبدو أن الجيش التونسي الذي وقف موقفاً مشرفاً في ثورة الياسمين مال إلى الجنرال صاحب الزي المدني ويحمل الأستاذية في القانون، فقد سارع لإغلاق البرلمان بدبابة، والحكومة والمقرات الحزبية للنهضة، وحاصر المكاتب الإعلامية والإذاعات، ومنع السياسيين من السفر، وأقال القضاء العسكري، وسار على نهج الجيوش الانقلابية، وهو ما منح الرئيس الانقلابي جرأة غريبة في تهديداته الدموية، وتحويل قراراته إلى أمر واقع!
لقد رفضت “النهضة” قرارات الانقلاب، ودعت إلى مقاومتها، ورأت معظم الأحزاب والقوى الأخرى أن ما قام به الرئيس انقلاب مكتمل الأركان، باستثناء حزب “حركة الشعب” (ناصري)، الممثل في البرلمان حيث أعلن دعمه للانقلاب، قائلاً: “إن القرارات المعلنة تعد “طريقاً لتصحيح مسار الثورة الذي انتهكته القوى المضادة لها وعلى رأسها حركة النهضة والمنظومة الحاكمة برمتها”، وقد رفض حزب “التيار الديمقراطي” قرارات الرئيس، وجاء في بيان للحزب أنه يختلف مع تأويل رئيس الجمهورية للفصل (80) من الدستور ويرفض ما ترتب عنه من قرارات وإجراءات خارج الدستور، وتعد “حركة الشعب” وحزب “التيار الديمقراطي”، من أهم داعمي الرئيس في البرلمان.
وأكد أمين عام التيار الشعبي (ناصري) أن حزبه يدعم جميع قرارات سعيّد ويؤيدها، داعياً إلى إقرار خريطة طريق واضحة في هذا الإطار، مضيفاً أن: “الناس التي أوصلتنا لهذا المأزق منذ سنوات ولهذه النهايات، تتحمل مسؤولية هذه القرارات، مؤكداً أن ما قام به الرئيس يدخل في صميم صلاحياته”.
المنصف المرزوقي
وكان موقف الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي رافضاً بقوة للانقلاب، وملقياً باللوم على “النهضة” التي تراخت في وضع حد لتغوّل الانقلابيين من أنصار الاستبداد وبقايا نظام بن علي، ونقلت عنه ليلة الانقلاب “CNN”: “خلافاتنا السياسية على خطورتها كانت تعالج بوسائل سياسية بوسائل سلمية وهذا ربما انتهى الليلة، أقول ربما لأن ما زال عندي أمل بأن هذا الشعب لن يقبل ما وقع هذه الليلة..”.
وتابع قائلاً: “ما وقع هذه الليلة هو قفزة جبارة إلى الوراء يعني خرجنا من نادي الشعوب المتحضرة والمتقدمة إلى الدول المتخلفة التي الكثير منها للأسف دول عربية، الذي وقع الليلة هو انقلاب، لن نكذب على بعضنا، هذا الرجل خرق الدستور الذي أقسم على الدفاع عنه، هذا الرجل حنث بوعده..”.
وأضاف: “الناس التي تهلل وفرحانة بهذا الانقلاب لعداوتها لـ”النهضة”، للأسف الشديد سترون يعني إذا تواصلت هذه المهزلة أن وضعكم الاقتصادي والاجتماعي والصحي لن يتحسن بل بالعكس سيزداد سوءاً ووضع تونس سيزداد سوءاً..”، وفي حديث لـ”الجزيرة” قال المرزوقي: “هذا فشل لكل المنظومة، وإذا نجح الانقلاب فالمنقلبون لا يملكون حلولاً”.
وأشار إلى أن الحسابات الخاطئة لـ”النهضة” هي التي جعلت الرئيس في وضع يمكنه من الانقلاب على الدستور.
وتابع: “حذرت حركة “النهضة” من إستراتيجية تغذية التمساح وهو الآن بصدد أكلهم وأكل تونس”، وقال: “ما نراه الآن هو خاتمة تصفية “الربيع العربي”.. هذا الرئيس لم يأخذ هذه القرارات إلا ووراءه قوى تحميه وتحرضه”.
وأضاف المرزوقي: “هناك قرار إقليمي بتصفية “الربيع العربي” وتصفية مكتسبات الثورات”.
هجاء الإسلاميين
التزمت معظم الدول العربية الصمت، باستثناء عواصم الثورة المضادة، فقد أطلقت أجهزة دعايتها تؤيد الانقلاب، وتشمت بـ”النهضة”، وتهجو الإسلاميين، وترميهم بكل نقيصة كذباً وزوراً وبهتاناً، وتنقل ما يتفوه به أنصار الانقلاب، وكلهم بالتعبير المجازي من حزب فرنسا، أي الموالون للغرب الاستعماري وأنصاره من المستبدين العرب، والكارهين للإسلام وليس الحركة الإسلامية، ويرون أن الحكم الدكتاتوري يحقق طموحاتهم على المستوى الشخصي والعام بسلخ البلاد عن هويتها وثقافتها الإسلامية.
وقد وصف الكاتب الصحفي جمال سلطان موقف النخب اليسارية والليبرالية والناصرية والحقوقية المصرية المائع تجاه انقلاب تونس بأنه مخز وفضائحي بامتياز، وأضاف: “لافت جداً أن يكون المثقفون أسرع شرائح المجتمع خيانة للديمقراطية والحقوق والحريات العامة، رغم كثرة صخبهم وأغانيهم عنها..”.
تأمل بعض العناوين التي تصدرت الصحف، وأقوال أقطاب الدعاية الرسمية تعليقاً على انقلاب قرطاج، وحصره ضد من تسميهم الإخوان، مع أن معظم العلمانيين التوانسة رفضوه وأدانوه:
– “تونس تنتفض ضد «الإخوان».
– الأحزاب التونسية: قرارات استثنائية لتصحيح مسار الثورة ضد انتهاكات «النهضة».
– يقيناً ستقهر الإرادة التونسية فيروس الإخوان، نعم تواجه الدولة ببسالة “كورونا” الذي أوصل البلاد إلى حالة متردية في الرعاية الصحية، كان ينبغي أن تبدأ المعركة أولاً بمواجهة الفيروس الأشد فتكاً بالبلاد والعباد الذي يحمل اسم “كوفيد الإخوان”.
– «تنظيم الإخوان ينهار مثل الأنهار ويشهد السقوط الأخير في تونس والعالم العربي».
– الانتفاضة ضد الغنوشية الإخوانية، انتفاضة شعبية (لم يعد مسموحاً السكوت عن التقصير الحكومي).. اقتحم المتظاهرون الغاضبون مقرات حزب “النهضة” في محافظات تونسية عديدة (تونس، القيروان، صفاقص، توزر، المهدية، سيدي بوزيد، الكاف)، قاموا بتحطيم مقرات “النهضة” وحرقها، بينما الهتافات في الشوارع “يا غنوشي يا سفاح يا قاتل الأرواح”!
هكذا تكلم اليساريون والناصريون والعلمانيون خارج تونس تأييداً للجنرال الدكتاتور الذي يرتدي زياً مدنياً!
مناشدات باهتة
وعلى الصعيد الدولي، فإن الغرب بدا موقفه أقرب إلى الميوعة والمناشدات الباهتة للأطراف السياسية بضبط النفس، والمحافظة على الديمقراطية، وهو ما دفع جريدة “واشنطن بوست” إلى الطلب من رئيس الولايات المتحدة بايدن وقف انقلاب تونس وإلا ترك الساحة لأنظمة الانقلابات إن لم تكن متورطة أصلاً فيه، وأضافت أن الرئيس التونسي الحالي يمتحن اليوم التزام بايدن بالديمقراطية.
ولا يختلف موقف الاتحاد الأوروبي عن موقف الولايات المتحدة كثيراً، ويتحدث عن مبادرات للحوار من أجل العودة إلى المسار الديمقراطي، أما العالم الإسلامي فلم نسمع غير موقف تركيا الذي بدا شائكاً بين كراهيتها للانقلابات وإدانتها، وبين مصالحها الاستراتيجية في شمال إفريقية.
مواجهة المستقبل
بيد أن الانقلاب يطرح سؤالاً واحداً تم طرحه من قبل، ولعل المنصف المرزوقي أومأ إليه في تعليقه على الانقلاب: كيف يواجه الإسلاميون المستقبل؟
لا ريب أن المراجعة والإحاطة بالواقع السياسي والدولي، وطبيعة الخصم الشرس، تفرض البحث عن منهج جديد، يضع في حسبانه:
– أن الشباب لا بد أن يقود الحركة الإسلامية.
– أن مواجهة الخصوم تقتضي الحذر واليقظة وعدم الاسترخاء أو الاعتماد على عناصر غير ثابتة، والمبادرة إلى قطع الطريق على خصوم الحرية، وعدم تغذية التماسيح!
– أن التركيز على التربية والدعوة وتنشئة الأجيال تربية إسلامية صحيحة خير وأبقى من الانغماس في المسؤوليات السياسية.
– كشف الحركات المعادية للإسلام وخاصة الشيوعية والماسونية والباطنية الجديدة!
– الدولة العميقة في تونس وغيرها تخطط لاستعادة القبضة الحديدية وخنق الشعب!