حذر رئيس الأركان الأمريكي «مارك ميلي» من ظهور جماعات إسلامية في أفغانستان، وذلك بعد سيطرة «طالبان» على العاصمة كابل، وبعد هذا التصريح بأيام قليلة، وقع أكثر من انفجار في مطار كابل وصف الأخير منها –حتى كتابة المقال– بأنه دامٍ، وراح ضحيته أكثر من 100 شخص، واتهم تنظيم «داعش» بأنه وراء هذا الهجوم.
فرح الكثيرون بدخول «طالبان» كابل وسيطرتها بدون أي مقاومة، واعتبروا هذا نصراً، وبداية لدولة أو إمارة أفغانستان الجديدة، بينما يرى آخرون أن هذا الانسحاب الأمريكي ما هو إلا فخ وبداية حرب جديدة أعمق وأكثر شراسة من صراع قادته أمريكا لمدة 20 عاماً، ولعل تصريح «مارك ميلي»، وظهور «داعش» بسرعة على السطح وقيامه بأعمال إرهابية؛ دليل من عدة أدلة تؤكد هذه النظرية وهذا الاحتمال.
أمريكا انسحبت قبل الموعد المحدد من أفغانستان وهي في مراحل التفاوض، ولم يكن انسحابها تحت أي ضغط أو تهديد سياسي أو عسكري، انسحبت وتركت وراءها ترسانة عسكرية تقدر بنصف مليون قطعة سلاح، تبدأ من الأسلحة الفردية إلى الطائرات المقاتلة وطائرات «C-130»، ولم تكتفِ بهذا، بل إن قوات الجيش الأفغاني وقوى الأمن الداخلي انسحبت وتركت كابل مشرعة الأبواب لـ«طالبان»، ولم يكن الانسحاب العسكري للجيش الأفغاني هو من يعزز هذه النظرية فقط، بل إن الأموال في البنك المركزي الأفغاني نُهبت من قبل الرئيس السابق أشرف غني، ومن رئيس البنك المركزي، كما جُمدت جميع الودائع البنكية الأفغانية في الخارج، وقامت أمريكا بترحيل 100 ألف أفغاني أغلبهم من الكفاءات السياسية والعلمية وقيادات إدارية أفغانية خارج البلاد.
وظهر «داعش»، الذي يظهر فجأة في الوقت الذي تحتاج فيه أمريكا لفرض سياسة الفوضى؛ فيقوم بتفجيرات وأعمال إرهابية هنا وهناك لا نعلم لها سبباً إلا زعزعة الأمن وتغذية الصراعات، كما ظهر في العراق وسورية والصومال بعد الاجتياح الأمريكي، وتسعى أمريكا لإثارة بؤرة صراع العهد القديم وهي منطقة بانجشير، منطقة القائد الميداني أحمد شاه مسعود، والرئيس السابق لحكومة أفغانستان برهان الدين رباني، رحمهما الله، وخاضت منطقة الشمال، خاصة بانجشير، صراعاً طويلاً مع «طالبان»، وما زالت هذه العرقيات مختلفة مع «طالبان» وليس لديها مانع بتجديد الصراع، كما صرح ابن أحمد شاه مسعود.
هذه التداعيات خلقت جواً متأزماً ومحرجاً لدى «طالبان»، فلا قيادات إدارية تدير مؤسسات الدولة، ولا قوى أمن تساعد «طالبان» في حفظ الاستقرار والأمن، ولا أموال لإدارة الدولة، حتى إن البنوك مغلقة إلا البنك الحكومي الذي يسمح بسحب 200 دولار بحد أقصى خوفاً من سحب العملة الصعبة وتحويلها للخارج، وأكبر من كل هذا عدم قدرة «طالبان» على تشكيل حكومة تدير شؤون البلاد حتى الآن.
تسعى أمريكا لزيادة أمد الصراع الأفغاني، وإشغال «طالبان» بأزمات سياسية ومالية وإدارية وجهادية، خاصة إذا علمنا أن أغلب أعضاء «طالبان» هم طلبة علم شرعي وليسوا أصحاب تخصصات علمية، وعاشوا جل أعمارهم بسلاح على الكتف والعيش في أرض المعارك فتعودوا على القتال، ومن الصعوبة أن يديروا دولة تحتاج لنظام سياسي ديمقراطي متعدد، نظام يسعى لعقد الاتفاقيات العسكرية والدبلوماسية التي قد تخالف قناعات «طالبان»، وتحتاج كذلك لنظام إدارة الدولة وتنميتها.
وسط هذا التوجه الأمريكي الذي ينخر الجسم الأفغاني، هل تتجه «طالبان» إلى المثلث الصيني الروسي الإيراني وهو أقل ضرراً من السيطرة الأمريكية، خاصة أن أفغانستان تمثل قلب هذا المثلث، ويساعد في السيطرة الاقتصادية للصين، أم تعقد اتفاقيات توأمة مع الصين الحالمة بإعادة طريق الحرير الذي يمر بقلب أفغانستان، وفي المقابل؛ تساهم الصين في تطوير الاقتصاد الأفغاني الذي يقدر بتريليون دولار من الثروات الطبيعية، أم تتجه للعدو القديم روسيا وفق شراكات نفطية واقتصادية تساعدها وتطورها؟
أم تتجه لتركيا وحليفتها قطر وتعقد اتفاقيات عسكرية واقتصادية، والانسجام بين تركيا وأفغانستان يكون أبلغ كونهما دولتين مسلمتين، وقواعدهما الأخلاقية والقيمية وحتى العرقية واحدة، كون أفغانستان من ضمن منطقة آسيا الوسطى مثل أوزبكستان وطاجكستان وغيرهما التي ترتبط بعلاقات عرقية وثقافية وتحالفات ناجحة مع تركيا؟
اليوم، «طالبان» أمام اختبار صعب جداً، تمتلك كل الخيارات وتتعرض لكل التهديدات، فإما أن يستمر الصراع الأمريكي بصورة مشابهة لما يحدث بالعراق، وإما أن تستفيد من التجارب الديمقراطية الناجحة في العالم الإسلامي كتركيا وماليزيا فتطور من إدارتها وتنمي بلدها لنرى أفغانستان جديدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) نائب رئيس التحرير.