رغم سقوط عشرات الملايين من الضحايا في الحرب العالمية الثانية قبل أكثر من 75 عاماً، فإن دعاة الحرب والدمار لم يتوقفوا عن ابتكار أساليب جديدة للدمار، وقادتهم عقولهم الشيطانية منذ نهايات القرن الماضي إلى صراع جديد من خلال «الحروب السيبرانية» أو «الإلكترونية» التي تهدد كل أوجه الحياة على الأرض إذا تم اختراق المنظومة المتحكمة في الرؤوس النووية وأسلحة الدمار الشامل بكل أنواعها لتفني الحياة البشرية أو تحولها إلى جحيم.
من هنا تأتي أهمية هذا التحقيق الذي يلقي الضوء على مخاطر هذه الحروب السيبرانية على البشرية، والضوابط القانونية الدولية التي يمكنها مواجهتها، وكذلك المنظومة الأخلاقية والدينية التي يمكن أن تكون جرس إنذار أخيراً لنجاة السفينة البشرية من الدمار التام.
في البداية، يعرف د. محمد يونس الحملاوى، أستاذ هندسة الحاسبات بجامعة الأزهر، الهجوم أو الحرب السيبرانية بأنها «أي هجوم أو محاولة تستهدف فضح أو تغيير أو تعطيل أو تدمير أو سرقة أو الحصول على وصول غير مصرح به، أو استخدام غير مصرح به للأصول».
وأوضح أن المهاجم قد يكون شخصاً أو دولة أو منظمة أو جماعة أو حتى عصابة أو من مصدر مجهول بقصد الوصول إلى البيانات أو الوظائف أو المناطق المحظورة لدى الخصوم لإلحاق الضرر بهم، ولهذا يؤكد أن الحرب السيبرانية هي أحد أنماط الحروب الإلكترونية، ويتم خلالها استخدام الطاقة الكهرومغناطيسية للتحكم في المجال الذي يتميز باستخدام الإلكترونيات والطيف الكهرومغناطيسي لاستخدام البيانات المتعلقة بالبنية التحتية المعلوماتية لمختلف المجالات الحيوية، خاصة في القطاعات العسكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، لافتاً إلى أن الهجمات الإلكترونية تتراوح بين تثبيت برامج التجسس على أجهزة الكمبيوتر، ومحاولة تدمير البنية التحتية للخصوم.
الحملاوي: البيان النهائي الأخير لقمة «الناتو» وردت فيه كلمة «سيبراني» 25 مرة
دفاع سيبراني مشترك
وأشار الحملاوي إلى أن الحرب السيبرانية الإلكترونية تتكون من ثلاثة أنشطة رئيسة تتم عبر الإنترنت؛ أولها: الهجوم الإلكتروني الذي يتم باستخدام الطاقة الكهرومغناطيسية لمهاجمة الأجهزة والمعلومات والإلكترونيات عند العدو، والوصول إلى طيفه الكهرومغناطيسي لتدميره أو السيطرة عليه وتحويره باستخدام البيانات المتعلقة بأنظمة الشبكة والبنى التحتية المرتبطة بها.
وثانيها: الحماية الإلكترونية، وهي كل الوسائل التي يتخذها كل طرف لحماية بياناته والبنى التحتية الإلكترونية لديه من أي اختراق أو تلاعب أو تحكم من الغير.
أما ثالثها فهو دعم الحرب الإلكترونية عن طريق أي إجراء يتم من خلاله تحديد مصدر الطاقة الكهرومغناطيسية من الأنظمة الشبكية لغرض التعرف الفوري على التهديد أو إجراء للعمليات المستقبلية.
ولفت الحملاوي إلى أن مخاوف العالم كبيرة جداً من نتائج الحروب السيبرانية التي تزداد تقنياتها صعوبة وتطوراً في أدوات البرمجيات والتكنولوجيا الحديثة، ولا يفطن كثيرون إلى أن هذه الحرب غير التقليدية أكثر دماراً وأقل تكلفة ودموية؛ لأنها باستطاعتها تدمير أنظمة الإلكترونيات التي أصبحت مخازن لكل المعلومات المتعلقة بكل أوجه الحياة على الأرض؛ بدءاً من محطات المياه، ومصادر الطاقة، والهواتف، ووسائل الاتصالات والمواصلات البرية والجوية والبحرية، والمحطات الإذاعية والتلفزيونية، وكل مكونات الأنظمة المالية.. إلخ.
ويستشهد الحملاوي على أهمية الحروب السيبرانية بأن البيان النهائي الأخير لقمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) وردت فيه كلمة «سيبراني» 25 مرة، وقامت الدول الأعضاء في الحلف من مختلف القارات بالتوقيع على سياسة دفاع سيبراني شاملة أو ما يشبه «اتفاقية دفاع سيبراني مشترك»، ليكون بينها تكامل في المعلومات، وكذلك التصدي المشترك لي هجوم سيبراني تتعرض له دولة عضو بالحلف، وهذا فصل جديد من فصول الحرب الباردة التي ستكون نهايتها مفجعة للبشرية جمعاء إذا لم يتم كبح جماح أطراف الحروب السيبرانية التي تزداد اشتعالاً وتطوراً كل يوم.
جيوش إلكترونية
من جهته، حذر د. علي الدين هلال، العميد الأسبق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، من التصاعد الخطير في الحروب السيبرانية الجديدة في الصراع الدولي، خاصة بعد الهجوم السيبراني على مواقع عدد من الوزارات الأمريكية المهمة، في ديسمبر 2020م، التي شملت الدفاع والخارجية والخزانة والتجارة والطاقة والأمن الداخلي، والوكالات الفيدرالية الرسمية ومراكز الأبحاث والمنظمات غير الحكومية، وقبلها التدخل في الانتخابات الأمريكية مما ينذر بتصعيد خطير.
وأشار هلال إلى أن الحروب السيبرانية تعد تحدياً خطيراً يفوق الحروب التقليدية المباشرة التي كانت تتم في الماضي، ويزيد الأمر صعوبة أن التحقيقات حول هذه الانتهاكات والاختراقات الإلكترونية غالباً ما تصل إلى طريق مسدود لعدم العثور على دليل تقني يثبت هوية المتدخل أو شخصيته سواء كان دولة أم منظمة أم عصابة أم حتى أفراداً يجيدون القرصنة الإلكترونية.
وأكد أن ما يشهده العالم في مجال «الحروب السيبرانية» يعد تطوراً سريعاً أشبه ما يكون بسباق التسلح، لكن تقوده «الجيوش الإلكترونية» ليدخل العالم حلقة جديدة من سباق التسلح السيبراني الذي أصبح أحد أهم عناصر قوة الدول المتصارعة التي تسعى إلى تطوير نظم أمن قواعد معلوماتها الإستراتيجية والعسكرية والأمنية.
وأنهى هلال كلامه عن خطورة وأهمية الحروب السيبرانية بما قاله الرئيس الأمريكي «جون بايدن» بأن الولايات المتحدة الأمريكية بحاجة ماسة وضرورية إلى تعطيل وردع خصومها عن القيام بمثل هذه الهجمات السيبرانية التي تهدد الأمن القومي الأمريكي والعالمي.
وعن الضوابط القانونية للحروب السيبرانية، أكد د. أحمد حسني، أستاذ القانون الدولي بجامعة الأزهر، أن هذه الحروب مستحدثة ولا يوجد كثير من النصوص القانونية الدولية المتعلقة بها، إلا أنه من مصلحة كل دول العالم التوافق على نصوص قانونية عامة تضمن الالتزامات الدولية.
وتابع: فمثلاً المادة (36) من البروتوكول الإضافي الأول الصادر عام 1977م، تلزم كل دولة التحقق من امتثال أي أسلحة جديدة تقوم بنشرها أو تدرس مسألة نشرها لقواعد القانون الدولي الإنساني، كما أن وسائل الحرب الآن وأساليبها تطورت كثيراً؛ فلم تعد اتفاقيات جنيف التي تمت صياغتها بعد الحرب العالمية الثانية صالحة في التعامل معها؛ ولهذا كان البحث عن صياغة قانونية دولية للتعامل مع الحروب السيبرانية ضرورة.
حسني: «دليل تالين» حل مؤقت تضمن مجموعة من القوانين المتعلقة بالصراعات الإلكترونية لسد الفراغ القانوني الدولي
وأوضح حسني أن الحل المؤقت لسد الفراغ القانوني الدولي تمثل فيما يسمى بـ«دليل تالين»، الذي صدر منذ سنوات قليلة بعد الحرب الإلكترونية التي تعرضت لها إستونيا من روسيا، ووضعه متخصصون في أمن تكنولوجيا المعلومات وقانونيون وعسكريون، وتضمن مجموعة متميزة من القوانين المتعلقة بالصراعات الإلكترونية.
ومع هذا، يرى حسني أنه غير كاف، ولا بد من البحث عن نصوص أخرى، خاصة أنه من الصعب إخضاع التجسس والحروب السيبرانية لقوانين التجسس والحروب التقليدية، وكيفية حماية الناس في حق الدفاع عن النفس، خاصة إذا كانوا ضحايا.
وطالب أستاذُ القانون الدولي بجامعة الأزهر خبراءَ القانون الدولي باتخاذ خطوات تكميلية لـ»تالين» للتأكيد على دور وأهمية القانون الدولي الإنساني، خاصة أثناء النزاعات المسلحة بكافة أشكالها ومنها الحروب السيبرانية.
وأوضح حسني أن هناك اتفاقيات قانونية إنسانية تمت صياغتها لحماية ضحايا النزاعات المسلحة وكيفية التعامل مع أساليب ووسائل القتال لتكون أكثر إنسانية وأقل وحشية ودموية؛ فمثلاً هناك اتفاقيات لحماية ضحايا الحرب، واتفاقيات أخرى لتقييد وحظر بعض أنواع الأسلحة، وثالثة لحماية الموارد، ورابعة للتحكيم الجنائي الدولي، لكن المشكلة أن هذه الاتفاقيات تغيب عنها تفاصيل الحروب السيبرانية التي يصعب التعامل معها بنفس الاتفاقيات التقليدية.
نصر: أطراف الحروب السيبرانية يغيب عنهم تماماً البعد الأخلاقي والإنساني في ممارستهم العدوانية
غياب الأخلاق
من جهته، يؤكد د. خالد نصر، أستاذ العقيدة والفلسفة والأخلاق بجامعة الأزهر، أن هناك شبه اتفاق على الأخلاق في الأديان والأعراف السوية، كما أنه لا يوجد دين أو عرف أو مبادئ أخلاقية تبيح التجسس والضرر بالآخر سواء كان دولة أم أفراداً.
وأشار نصر إلى أن تغلُّب القيم المادية النفعية والأنانية –على مستوى الدول والأفراد– أضر كثيراً بالمنظومة الأخلاقية السابقة؛ بدليل قيام حروب راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر الأبرياء الذين لم يكن لهم ناقة ولا جمل في تلك الحروب، والوضع نفسه يتكرر الآن من خلال الحروب السيبرانية التي يقع ضررها الرئيس ليس على الأطراف المتصارعة فقط، بل بقطاع عريض من البشر المدنيين، بل إنها تهدد الحياة البشرية كلها إذا تم اختراق المنظومة الإلكترونية المتحكمة في أسلحة الدمار الشامل والحقائب النووية، فضلاً عن منظومة كل وسائل النقل بما فيها الطائرات والقطارات التي يركبها الملايين من البشر يومياً ويتم التحكم فيها إلكترونياً، وغير ذلك الكثير من الأنظمة المالية العالمية من البنوك وغيرها، حتى يصل الأمر إلى إمكانية اختراق أجهزة التحكم في مياه الشرب للمواطن البسيط.
وأوضح أن أطراف الحروب السيبرانية يغيب عنهم تماماً البعد الأخلاقي والإنساني في ممارستهم العدوانية، بل إنهم يتهربون من المسؤولية القانونية الدولية؛ فما بالنا بالمنظومة الأخلاقية التي تتعلق بالضمير الإنساني الميت لدى هؤلاء الوحوش الآدمية التي تستخدم وسائل «التوحش الإلكتروني» للإضرار بالإنسانية، بل وتهدد كل أوجه الحياة على الأرض؟
وأنهى د. نصر كلامه مؤكداً أن «الأخلاق عنوان الشعوب»؛ ولهذا حثت عليها جميع الرسالات السماوية، ونادى بها الأنبياء والصالحون والمصلحون والفلاسفة في كل العصور؛ لأنها أساس الحضارة الإنسانية، والضابط الأساسي للمعاملة بين البشر.
قزامل: على جميع محبي السلام أن يبحثوا عن وسائل للتعاون بينهم للتقليل من أخطار هذه الحروب
وعن حكم الشرع في الحروب السيبرانية، يؤكد د. سيف رجب قزامل، العميد السابق لكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، أنه رغم عدم وجود نص خاص بتلك المستحدثات، فالإسلام يتضمن قواعد عامة وكلية صالحة لكل زمان ومكان؛ فهذه الحروب تتضمن العدوان والفساد، وقد حرم الله ذلك بنصوص صريحة؛ فقال سبحانه: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا) (الأعراف: 56)، وكذلك حرم العدوان بكل صوره، إلا إذا أدى ترك العدوان لضرر أكبر، فيكون الرد بمثله، وما يزيد على ذلك فمحرم شرعاً؛ حيث قال الله تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190).
وأوضح قزامل أن المشاركين في «الحروب السيبرانية» أعداء للتعايش السلمي بين البشر يقودون البشرية إلى الصراع الذي قد يفضي إلى الهلاك والدمار الشامل، ولهذا فإن حسابهم عند الله عسير؛ لأنهم يضرون بخلق الله والكون والموارد الطبيعية.
وأكد قزامل أن على جميع محبي السلام والخير والعدل والمساواة في العالم أن يبحثوا عن وسائل للتعاون فيما بينهم للتقليل من أخطار هذه الحروب السيبرانية التي تعد نذير شؤم للبشرية وليس فيها أي جوانب خير، داعياً إلى تأمل القاعدة التي وضعها الحديث النبوي حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: «تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره».