بحثت عنها فلم أجدها، منذ أن جاءت بها جدتي لم تفارق بيتنا، نلعب معها، تتقافز على شجرة الجميز، تحاول أن تضحكنا، تعلقت بها كثيرا؛ أعياني البحث عنها في كل الأمكنة التي اعتادت أن تخطو فيها. ازدحم البيت ببقايا الأجداد؛ ثيابهم لا تصلح لي، فلا أقلام تركوها ولا أموال توارثناها عنهم؛ كل ما خلفوه وراءهم نتف من مقولات، شغبوا علينا بحكاياتهم، فقط كانوا يعتاشون عليها.
تعيث الفئران فساداً في البيت، الثقوب تشبه الغربال، يبدو أنها ملت معيشتنا؛ في زمن الجدب تفر الهرة بحثاً عن قوتها.
لم يتبق لنا من صديق غير الكلب؛ ضامر يسحب ذيله، هزيل لا يكاد يبلغ نباحه نهاية دارنا القابعة في جوف الظلام، ترى ما أبقاه معنا في تلك السنوات العجاف؟
النهر مجدب والسفن تبكي والريح تدوي، لست مخادعاً لكم؛ إنني في حالة من الملل يطبق على أنفاسي، استعدت كل تفاصيل الماضي؛ تعلمون أنني مولع بالحكايات التي تسردها جدتي، قطة وكلب يتآلفان؟!
الفقر يؤلف بين الضدين، أو لعلها العشرة الطيبة، إننا في بلاد العجائب، نزوج النمل ونبني مدناً في عالم الخيال تسكنها الأحلام.
تقولون: الوفاء؛ بعضكم يسرد حكايات عن هذا الفصيل من الحيوانات؛ تسلونني، لا ضير من هذا كله، ينزوي في ركن أمام البيت يهز ذيله حين يراني؛ أقتسم معه كسرات الخبز، أتألم لحاله، تخيلوا.. جاءت الهرة بفأر، أكلت نصفه ثم ألقت بالآخر للكلب الذي تحامل على نفسه ومن ثم التقمه في سعادة لا توصف.
صارت تلك عادتها تلتهم معه لحم الجرذان، لكنها تترك لنا في مدخل البيت الرؤوس، هل تراها تمن علينا بشيء؛ فزعت جدتي لما تجد، ضربتها بالعصا، امتنعت عن فعلتها، الكلب يتأوه جوعاً؛ يرمق جدتي في حدة لم نعهدها منه، لقد أغضبت أليفته، صحونا من نومنا ولم نجده، تحامل على نفسه؛ تبعها؛ صار يتقافز على الحوائط؛ يتسلق الأشجار؛ ترك نباحه وأخذ يموء، وللطعام إغراء شهي؛ هل يقبع أمام بيتنا يأكله الجوع فريسة، تحايل على معيشته، سمن وازدهى بما أوتي من لحم، نحسده على مهارته؛ في بلاد تتمنى أن تتسلق الحوائط، أخذت جدتي تسرد كل ما اختزنته من قصص لتشبعنا من جوع في ليالي الشتاء الطويلة.
سمنت وانتفخت، يتبعها الكلب وقد أرخى ذيله؛ يتبعها مثل ظلها، يتراقص في محضرها بهلوانا، تتكاسل في ضحوة الشمس، تتقلب يمنة ويسرة وهو موصد ذراعيه ليلبي إشارة من غمازة عينيها، أطعمته وأنسته أيامنا؛ وعهد الوفاء أن يذهب في زمن الخيانة؛ لقد أبرقت إليه بوعد فأشبعته، ونحن طعامنا المواعيد.
تسامع الحاكم في مدينتا التي تقبع في متاهة الظلام- فالفقر يحيل الرؤية إلى غبش وعتمة- بما حدث للكلب من ثراء، سلط رجاله السريين أن يوافوه بالأخبار كل ساعة، ماهر هو في تدبير الطعام ﻷفواه الجوعى؛ شاشات التلفاز أنبأته بما جرى في بلاد كسلا؛ بالفعل يمتلكون النهر لكنهم يحتسون الشاي والذباب يتراقص على أنوفهم، شح رغيفهم، رحم الله الطيب صالح دلس عليهم حين أقنعهم بأن موسم الهجرة دائما يتجه نحو الشمال؛ جعلهم يلوكون الشعارات نفسها؛ يتماهون مع بطله مصطفى سعيد وهو يفترع ساقي “آن همند”.
حاكم مدينتنا -لا عدمنا حيلته- أوصانا بأن نكون مثل الجراء تتبع الهرات، نتقافز كالقرود فوق الأشجار، نعبث في النفايات كالجرذان؛ وإلا ألقى بنا في أفران الغاز!
صارت هرتنا نجمة الرغي اليومي في برامج المساء، تعطي نصائح لتجاوز أزمة الغذاء، ينبح كلبنا كلما رآها ترتدي ثياباً ذات فراء، تضع نظارة سوداء، تمسك بهاتف ذكي، تصدر أوامرها لجوقة تتبعها.
صار كلبنا مشهوراً، يعطي للآخرين حكمته، أيهما أكثر نفعاً؛ الجوع أمام بيت تهرب منه الجرذان أم الرقص والزهو وراء هرة؟