تعد المؤسسات الدينية الحصون المنيعة التي ينتظر منها المجتمع أن تقوم بدورها بحماية كل ما يمس أمنه وسلمه الاجتماعيين؛ ولهذا تبوأت هذه المؤسسات مكانة علية في قلوب أبناء المجتمعات؛ حتى أصبحت مثار فخر بين أبناء الدول الإسلامية.
وبناء على هذه المكانة الكبيرة لهذه المؤسسات الدينية، باعتبارها الحارس الأمين على قيم المجتمع وثقافته وهويته؛ كان من الضروري في سياق هذا الملف استجلاء موقف تلك القيم، وما إذا كانت تقوم بدورها أم أن هناك أوجه قصور تحول دون ذلك.
وفي هذا التحقيق، نستطلع آراء بعض العلماء والدعاة حول دور المؤسسات الدينية في حماية القيم.
في البداية، يؤكد د. نبيل السمالوطي، أستاذ علم الاجتماع، عميد كلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر، أن القيم والأخلاقيات الفاضلة تمثل سفينة النجاة والإنقاذ من مشكلاتنا بوجه عام، ومشكلاتنا الاجتماعية والأسرية بوجه خاص، خاصة في عصر العولمة والسماوات المفتوحة التي جعلت العالم قرية كونية صغيرة؛ مما بات معه كياننا الاجتماعي مهدداً، فضلاً عن التحديات القيمية الأكبر التي يتعرض لها المسلمون المقيمون في بلاد غير إسلامية.
د. السمالوطي: على المؤسسات الإسلامية التواصل مع المجتمع خاصة الأسرة فهي أول من يزرع القيم
وأوضح أستاذ علم الاجتماع أن القيم عرَّفها علماء الاجتماع بأنها عبارة عن «مجموعة المبادئ التي يتم من خلالها السيطرة على الإنسان والحكم عليه من خلال تقييم الأفكار والمعتقدات والاتجاهات، والميول والطموحات والسلوكيات والأخلاق، من خلال المنظور بغض النظر أكانت صالحة أم سيئة»، مضيفاً أنه لا شك أن القيم الإسلامية متميزة عن غيرها في أنها تتوافق مع الفطرة السوية التي خلق الله تعالى الناس عليها.
وأوضح السمالوطي أن المؤسسات الدينية وخاصة التعليمية والتربوية والاجتماعية منها تتحمل عبئاً كبيراً في المحافظة على قيمنا التي تتعرض لحرب شعواء لاقتلاعنا من جذورنا الدينية والحضارية، ويجب أن تعي مؤسساتنا مقولة «وليام إيوارت جلادستون»، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، منذ القرن التاسع عشر زمن الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس: «ما دام القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق».
ولا شك أن قيمنا الرئيسة يعد القرآن الكريم والسُّنة النبوية مصدرها الرئيس، ونتأمل ما قاله المؤرخ البريطاني الشهير «أرنولد توينبي»: «إن الوحدة الإسلامية نائمة، لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ»، ولا شك أن التمسك بالقيم من أهم أدوات يقظة الأمة من كبوتها.
وأشار السمالوطي إلى أن المؤسسات الإسلامية لا بد أن تتواصل عملياً مع بقية المؤسسات الرئيسة في المجتمع وخاصة الأسرة؛ لأنها أول من يزرع القيم وتحرص على تطبيقها على أبنائها وبناتها، فما أحوجنا في عصر الانفلات الأخلاقي والمثلية والعلاقات غير الشرعية باسم حقوق الإنسان إلى ترسيخ قيمنا المهددة بالانقراض، وتعاني من التراجع المستمر في الالتزام بها، مثل: قيم الاحترام المتبادل، والحياء، والرحمة، والأمانة، والنظافة، والوفاء، والبر بالوالدين، واحترام حقوق الصغار، والمودة بين الزوجين، وغير ذلك من القيم الإسلامية التي تختفي تدريجياً في عصرنا.
د. هاشم: المؤسسات الدينية لم تصل إلى الدرجة المأمولة لغياب التنسيق بينها
غياب التنسيق
أما د. أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، الرئيس الأسبق لجامعة الأزهر، فيؤكد أن كلمة «القيم» مشتقة من «القيمة» التي يقصد بها الأشياء الغالية والثمينة التي لها مكانة رفيعة في النفوس، لافتاً إلى أن النظر الفاحص إلى القيم الإسلامية يؤكد أنها متوافقة مع العقل الذي كرمنا الله به عن بقية الكائنات الحية الباحثة عن غريزتها فقط، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: 70).
وأشار هاشم إلى أن الالتزام بالقيم السوية يشعر الإنسان بالسعادة والتوافق والاستقرار الاجتماعي، وبقدر توافق أفراد المجتمع على قيمهم واعتزازهم وتمسكهم بها؛ تكون قوته وتماسكه في مواجهة محاولات الغزو الفكري والثقافي والاجتماعي، بل والسياسي والعسكري؛ لأن قوة القيم أو ضعفها يكون بقدر اقتناع وتمسك أفراد المجتمع بها أو تفريطهم فيها.
وأوضح عضو هيئة كبار علماء الأزهر أن المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي لم تصل إلى الدرجة المأمولة من كل مسلم غيور على دينه؛ وذلك لغياب التنسيق والتعاون والتكامل بشكل كاف؛ ما جعل كثيراً منها يعمل في جُزر منعزلة، رغم وجود بعض المنظمات التي تجمع غالبية مؤسساتنا الإسلامية، مثل المجامع الفقهية والأمانة العامة لدور الإفتاء في العالم، والمؤتمرات الدولية الإسلامية، ورابطة الجامعات الإسلامية، واتحاد المدارس الإسلامية، وغيرها الكثير التي لو تم تفعيل التعاون فيما بينها لحماية القيم ومواجهة المتربصين بقيمنا لكان لعالمنا الإسلامي شأن أفضل من هذا.
ويضرب هاشم مثلاً على تحول مجتمعاتنا الإسلامية إلى الأفضل لو قامت مؤسساتها الدينية بدورها في تفعيل تلك القيم، قائلاً: يكفي أن نفعل قيم إتقان العمل كالعبادة، وطلب العلم وجودة التعليم كفريضة، والتربية الدينية الصحيحة لأولادنا على تحري الحلال وتجنب الحرام، والبعد عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
د. الجعفراوي: تغيير اسم «إيسيكو» لتأكيد رسالتها وتحقيق المرجعية الحضارية للعالم الإسلامي في ضوء القيم
ويدلل أستاذ الحديث بجامعة الأزهر بنموذج هو رابطة الجامعات الإسلامية، ويقول: إنها لا تضم في عضويتها كل الجامعات في عالمنا الإسلامي فقط، بل وغير الإسلامي، ومهمتها منذ تأسيسها عام 1969م التنسيق بين الأعضاء في مجال المناهج الدراسية والسياسات التعليمية والبحثية بما يحقق التقارب والتكامل فيما بينها، وتنمية التعاون العلمي والفكري والثقافي بينها، وكذلك مع الجامعات العالمية، مع العمل على نشر الالتزام بتعاليم ديننا، وإشاعة القيم الإسلامية، والحث على العمل بها من خلال العناية بمناهج العلوم الإسلامية والعربية والارتقاء بها وتطويرها؛ فهذه الرسالة في حاجة إلى إستراتيجية متكاملة، يتم تنفيذها ولا تكون حبيسة الأدراج مثل غيرها من الأفكار العظيمة التي لم تر النور.
إستراتيجية شاملة
في السياق ذاته، دعا د. صلاح الجعفراوي، الخبير بالمنظمة الإسلامية للعلوم والثقافة (إيسيسكو)، رئيس المجلس الإسلامي في ألمانيا سابقاً، إلى ضرورة التعاون والتكامل بين مختلف المؤسسات الإسلامية سواء الموجودة في الدول العربية والإسلامية، أم الموجودة في البلاد غير الإسلامية، شرقاً وغرباً، للوصول إلى إستراتيجية لحماية قيمنا التي تختلف بالطبع عن قيم غير المسلمين، وأفضل منظمة لتنفيذ ذلك هي منظمة التعاون الإسلامي، التي تعنى كثيراً بهذا الأمر من خلال ميادين التربية والعلوم والثقافة والاتصال في البلدان الإسلامية، للمحافظة على القيم الحاكمة لمجتمعاتنا المنطلقة من الدين والأعراف الاجتماعية.
وأشار الجعفراوي إلى أنه في 30 يناير 2020م، اعتمد المجلس التنفيذي للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) تغيير اسم المنظمة إلى «منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة» لرفع الالتباس الشائع بشأن طبيعة مهامها، وفتح آفاق أوسع لمشاركاتها الدولية لتأكيد رسالتها الحضارية ولتحقيق المرجعية الحضارية للعالم الإسلامي، في ضوء القيم والمثل الإنسانية الإسلامية، والمواجهة العملية والعلمية لمن يشوهون ديننا وقيمنا من خلال تدعيم التفاهم بين شعوبنا من جانب ومع غيرنا من جانب آخر لإقرار السلم والأمن العالمي، والتعريف بحقيقة الإسلام وثقافته، وتشجيع الحوار الحضاري والثقافي والديني، والتعاون لنشر قيم ثقافة العدل والسلام ومبادئ الحرية وحقوق الإنسان، ومبادئ الحرية وحقوق الإنسان، انطلاقاً من منظورنا الحضاري الإسلامي الذي يشجع على التفاعل الثقافي مع المحافظة على الهوية الثقافية والاستقلال الفكري.
وكشف الجعفراوي أن عدد الدول الأعضاء في «منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة» يبلغ 54 دولة، من إجمالي الدول الأعضاء بمنظمة التعاون الإسلامي البالغة 57، ويتم تنفيذ إستراتيجية لتدعيم التكامل والتنسيق وتعزيز التعاون والشراكة مع المؤسسات الحكومية وغير الحكومية المماثلة وذات الاهتمام المشترك، داخل الدول الأعضاء وخارجها، مع العمل على التكامل والترابط بين المنظومات التربوية، ودعم جهود المؤسسات التربوية والعلمية والثقافية للمسلمين في الدول غير الأعضاء في «إيسيسكو».
د. إلهام شاهين: يجب أن تعير المؤسسات الدينية القطاع النسائي مزيداً من الاهتمام في ظل حملات التغريب
الأمهات والواعظات
من جانبها، شددت د. إلهام محمد شاهين، الأستاذة بكلية الدراسات الإسلامية للبنات بجامعة الأزهر، على أهمية دور مؤسسات الوعظ النسائي في مجال التوعية والإرشاد للنساء والبنات بالقيم الفاضلة التي يدعو إليها الدين والأعراف الاجتماعية السليمة، سواء فيما يتعلق بالحقوق والواجبات الزوجية، أو غيرها من القيم.
وأشارت إلى أن المؤسسة الدينية يجب أن تعير توعية القطاع النسائي مزيداً من الاهتمام في ظل حملات التغريب التي تستهدف مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وتتخذ من المرأة رأس حربة لضرب أجيالنا الحالية والقادمة.
وبررت دعوتها بأن المرأة في الحقيقة نصف المجتمع عدداً ومربية وراعية النصف الآخر؛ أي أن تأثيرها ممتد إلى كل المجتمع، ولهذا نظر أعداء الإسلام إلى مجتمعاتنا ولاحظوا أن موطن قوتها يتمثل في «الأسرة» وعمودها الفقري المرأة سواء كانت زوجة أم مطلقة أم أرملة؛ لأن الإحصائيات تؤكد أن أكثر من ثلث مجتمعاتنا تعولها امرأة، ومن يتأمل جهود المنظمات النسوية الغربية المسيطرة على المنظمات الاجتماعية الفاعلة في الأمم المتحدة سيجدها تعمل بكل قوة على هدم الأسرة واقتلاع التشريعات المنظمة لها سواء فيما يتعلق بالزواج الشرعي، والمهر والميراث والحقوق والواجبات المتبادلة بين الجنسين، سواء فيما يتعلق بالزواج أو العلاقات الاجتماعية والعامة في العمل.
وطالبت د. إلهام المؤسسات الإسلامية بالقراءة الواعية والمتأنية الحذِرة من نصوص اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة أو «سيداو»، وهي معاهدة دولية اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1979م، ووصفتها بأنها «وثيقة الحقوق الدولية للنساء»، وتم التصديق عليها عام 1981م، ووقعت عليها 190 دولة، من بينها أكثر من 50 دولة وافقت مع تحفظات أو اعتراضات غالبيتها من الدول العربية والإسلامية؛ لأن بعض نصوص المعاهدة تعمل على القضاء على جميع الفروق بين الجنسين بحجة أن هذا نوع من أشكال التمييز العنصري، وتضمن الاتفاقية 6 أجزاء، وتحتوي على 30 مادة بعضها يدعو إلى الحرية الجنسية والمثلية والشذوذ بزعم عدم التمييز، وكذلك الدعوة إلى الحرية المطلقة للمرأة في المجتمع بعيداً عن تعاليم الأديان، والمساواة التامة بين الجنسين.
وتجبر المادة الثانية كل الدول على إظهار نيتها الحقيقية للمساواة بين الجنسين في دساتيرها المحلية، وإلغاء كافة القوانين التي تسمح بالتمييز بناء على الجنس، وسن قوانين للحماية من أي تمييز، وإنشاء محاكم ومنظمات مجتمعية لحماية المرأة ضد أي ممارسات تمييزية بغض النظر عن التشريعات الدينية والأعراف الاجتماعية، ومعاقبة الأفراد والمؤسسات والمنظمات المخالفة لذلك.
وتنهي د. إلهام كلامها مطالبة المؤسسات الدينية من خلال المجامع الفقهية والمنظمات الإسلامية، مثل منظمة التعاون الإسلامي التي تضم 57 دولة، بوضع إستراتيجية متكاملة لحماية قيمنا من هذه الاتفاقيات المشبوهة التي تستهدف هدم مجتمعاتنا بأيدينا لتصبح نسخة ممسوخة من المجتمعات الغربية التي لا مكان حقيقياً فيها للدين، بعد أن حبسته العلمانية المتوحشة داخل دور العبادة ولم يعد له وجود في المجتمع.