يمكننا فهم ذلك الهجوم الشرس على القيم الأصيلة للأسرة في ضوء إستراتيجية تغيير قيم المجتمع ككل؛ فإذا كان المجتمع يتم دفعه بقوة لتبني قيم الحضارة الغربية وثقافتها ونمطها في الحياة وموالاة أصدقائها ومعاداة أعدائها والتخلي عن قضايانا الكبرى وعلى رأسها القضية الفلسطينية حتى ننسجم مع هذه الحضارة، أو على وجه الدقة حتى تذوب هويتنا الحضارية تماماً فيها؛ فإن تذويب القيم الأصيلة للأسرة يكون المستهدف الأول من هذا المخطط.
الأسرة تمثل أهم خط دفاعي في المجتمع كله، وهو خط دفاعي صلب وقوي بقدر ما يتمثل من قيم أصيلة مصدرها الأساسي هو الشريعة الإسلامية، أما التقاليد والعادات فتكون فعالة بمقدار ما تقترب من الشريعة الإسلامية، ممثلة لروحها، رابطة بينها وبين ظروف وأحوال كل مجتمع وخصوصيته، بينما تبدو هذه العادات والتقاليد خصماً من قيم الأسرة كلما ابتعدت عن تطبيقات الشريعة، بل تبدو الثغرة الأساسية لخلخلة تلك القيم.
قيم الأسرة بالغرب بحالة من السيولة واقعة تحت وطأة الصيرورة بأشكال شاذة
يهاجم المتغربون قيم الأسرة، متهمين إياها أنها لا تتناسب مع التغير السريع الحادث في العالم؛ فمنذ ثورة الاتصالات والعالم يشهد تغيرات لم يسبق لها مثيل؛ فما حدث في آخر عقدين من الزمان غيّر خارطة البشرية تماماً، وأفرز إشكاليات وقيماً جديدة.
يريد المتغربون إسقاط كل هذه التغيرات على القيم الأسرية أيضاً، وربما تحقق لهم بعض النجاح الجزئي؛ فقيم الأسرة في الغرب ومن قبل ثورة الاتصالات وهي في حالة من السيولة الشديدة واقعة تحت وطأة الصيرورة بأشكال شاذة من الأسر والتطبيع الاجتماعي مع هذا الشذوذ والاضطراب، هذا التطبيع الذي تحول لضغوط مؤثرة.
ولو أخذنا قضية الشذوذ الجنسي كنموذج لذلك التطبيع والضغط للقبول به كرهاً، نجد أنه منذ أن ألغت منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة تصنيف المثلية (الشذوذ) كاضطراب نفسي وهناك ضغوط هائلة تمارَس علينا للقبول به كحق أصيل من حقوق الإنسان!
كبرى المواقع الإلكترونية العالمية –مثل «بي بي سي» في نسختها العربية- لا تخلو يوماً من أخبار لدعم المثليين والمتحولين والعابرين جنسياً والتعاطف مع قضيتهم، ومحاولة جذب التعاطف معهم والترويج لأي عربي يعيش في الخارج ويفصح عن ميوله واتجاهاته الشاذة حتى تتبنى مجتمعاتنا القيم الجديدة للأسرة التي تشكلت في الغرب، التي هي أكثر نقاط ضعفه في الوقت ذاته، كما يقول السياسي والمفكر الأمريكي «باتريك جيه بوكانن»، في كتابه «موت الغرب»، الذي يبشر فيه بموت وانتهاء الغرب، والموت الذي ينتظره الغرب، بحسب المؤلف، له شكلان بينهما علاقة وثيقة؛ حيث يؤدي الأول منهما إلى الثاني؛ فالموت الأول موت أخلاقي بسبب الانحلال الذي كان بدوره نتيجة لتحطيم القيم التربوية الأسرية والأخلاقية التقليدية، وهو ما يسعى الغرب بمؤسساته وأتباعه لإعادة إنتاجه في بلادنا، والموت الآخر موت ديموغرافي وبيولوجي بسبب النقص السكاني الذي هو النتيجة المنطقية للانحلال والشذوذ الأخلاقي.
البعض يستغل ثورة الاتصالات لنشر الأفكار الهدامة باعتبارها أفكاراً غير تقليدية
فهؤلاء الذين يسعون لتغيير قيمنا الأسرية واستبدال القيم الأسرية في الغرب بها ينطلقون من زعم أن العالم يتغير، قائلين: «انظروا لثورة الاتصالات! والغرب الذي تنتقدون قيمه هو من صنع تلك الثورة الرقمية؛ فكما تسيرون خلفه في مجال التكنولوجيا عليكم اتباع نفس القيم والأخلاق للبشر الذين اخترعوا التكنولوجيا».
المجتمع الأبوي
في بلادنا العربية، هناك من يجهر بشكل صريح بتحطيم القيم الأسرية الأصيلة، وإلقاء الأسرة في أمواج التغير العالمي؛ حتى تصل لقيم جديدة لا تتصف بالثبات هذه المرة، وإنما بالتغير المستمر، وهؤلاء وإن كانوا قلة فإن لهم تأثيراً كما أنهم يتزايدون بمرور الوقت، وينتشرون كما تنتشر الخلايا السرطانية كما حدث مع قوم لوط.
هؤلاء يستغلون ثورة الاتصالات وشيوع الإنترنت خاصة بين الأوساط الشبابية لنشر هذه الأفكار باعتبارها أفكاراً غير تقليدية تتماشى مع التطور الإنساني الذي يحترم الآخر، ويعلي من شأن الخصوصية والحرية الشخصية وحقوق الإنسان الأساسية.
بعض هؤلاء المتغربين يمتلكون مراكز تمولها جهات وهيئات غربية مادياً، وترعاها في المحافل الدولية، وتضغط على الحكومات المحلية حتى لا تلاحَق قضائياً، حتى وصل الأمر ببعضهم لإصدار بيانات ينددون فيها بالجهات القضائية في إحدى الدول العربية الكبيرة لإدانتها بعض المتهمين؛ لأنه جاء في صحيفة الدعوى الجنائية أن المتهمين اعتدوا على المبادئ والقيم الأسرية، وارتكز الهجوم على أن هذه جمل فضفاضة لا تعني شيئاً، وأنه لا توجد أمور ثابتة أو واضحة اسمها قيم ومبادئ الأسرة! وتم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتدشين حملات مليئة بالسخرية والتهكم على قيم الأسرة.
أهم الشروخ بالقيم الأسرية العزلة التي أصبحت سمة لكثير من الأسر بعد أن أزاحت قيمة التواصل
إلا أن هناك قطاعات أخرى أشد خطورة لا تواجه المجتمع بهذه الصفاقة، وإنما تتحرك في مساحات أكثر أمناً؛ حيث تهاجم تلك القيم التي تختلط فيها العادات والأعراف بالدين، وهو أمر جيد إذا كان الهدف تطهير الدين مما علق به من عادات تتناقض معه أو حتى لا تؤازره بالشكل الكافي، لكنهم يصوبون سهامهم بحيث تصيب العرف الجائر والقيم الدينية الصحيحة في آن واحد.
ولنأخذ هنا مصطلح «المجتمع الأبوي» أو الذكوري تحت مجهر القيم، فإذا كان المصطلح يعني استبداد الرجال وظلم النساء ومنعهن حقوقهن، أو التعامل العنيف معهن؛ فهذا كله مرفوض في ميزان القيم الإسلامي، وينبغي أن يعي الدعاة والمصلحون أن من أهم واجباتهم إدانة مثل هذه السلوكيات والتنديد بها حتى لا يتركوا الفرصة للعابثين بقيم المجتمع وقيم الأسرة أن يتخذوا من مثل هذه السلوكيات ستاراً يستترون وراءه لتنفيذ مخططهم الشيطاني؛ حيث يبدؤون بقضايا عادلة لينتهوا إلى نتيجة تقارب الفريق الأول الصريح في رفضه لقيم الأسرة؛ فتحت إدانة المجتمع الذكوري يجرد الرجل من حقه وتكليفه في القوامة حتى وصل الأمر لاعتبار استئذان الزوجة زوجها للخروج أو السفر شكلاً من أشكال العبودية، وانتهاك حقوق النساء تحت لافتة «إدانة المجتمع الأبوي» يفقد الأب دوره ومكانته في الأسرة، ويتم تهميشه وتفريغ دوره من أي قيمة حقيقية.
ما الحل؟
في خضم هذا الهجوم غير المسبوق على القيم الأسرية والعائلية في عصر يتغير بسرعة تحت وطأة ثورة الاتصالات، حدثت أيضاً شروخ داخلية ذاتية ناتجة من تعاطي الأسرة واستهلاكها لهذه الثورة الرقمية، ولعل أهم هذه الشروخ فيما يتعلق بالقيم الأسرية تلك العزلة التي أصبحت سمة لكثير من الأسر، بعد أن أزاحت قيمة التماسك والتواصل؛ فكل فرد من أفراد الأسرة الحديثة يمتلك هاتفاً ذكياً، ولديه أكثر من منصة للتواصل الاجتماعي، وأصدقاء كثيرون من العالم الافتراضي الذي يتوقع له أن يقفز قفزات خيالية حتى تشبع تجربة التواصل الافتراضية كافة حواس الإنسان، ناهيك عن عقله ومشاعره بحيث يحل الافتراضي بقيمه وآلياته محل الحقيقي، أو على الأقل يجعله ثانوياً إذا استمرت الحال بهذه المتوالية، ومن ثم فنحن بحاجة لتفكير عميق حتى ننقذ قيمة التواصل الحقيقي داخل الأسرة، ولن يتم ذلك دون أن نمتلك الوعي الكافي بأهمية هذا التواصل الذي هو ضمانة التماسك؛ أي صلابة الأسرة في مواجهة كل الحروب التي تشن عليها.
الحوار مع الأبناء يحقق ضمانة تمنحهم المساحة الآمنة للبوح وتبعدهم عن دوائر الانحراف
هذا التواصل بحاجة أن يتم على أكثر من مستوى:
– بين الزوج والزوجة؛ لضمان وجود الحب والتعاطف والرحمة، خاصة أن هناك استشراء للفساد بين الجنسين ناتجاً من سهولة التواصل عبر العالم الافتراضي.
– وعلى مستوى الأبناء، يحقق التواصل والحوار ضمانة مهمة تمنحهم المساحة الآمنة للبوح، وتبعدهم عن دوائر الخوف والابتزاز أو الانحراف التي قد يقعون فيها عبر الفضاءات الرقمية.
– وعلى مستوى العلاقة مع الآباء والأجداد والمسنين ممن لا يمتلكون المهارات الرقمية والتكنولوجية الحديثة؛ حيث يحقق التواصل معهم إشباعاً عاطفياً غاية في الأهمية لضمان سلامهم النفسي.
______________________________________________________________
(*) كاتبة متخصصة بقضايا المرأة والمجتمع.