الحمد لله الذي أنزل على نبيه القرآن والحكمة، والصلاة والسلام على خير الرسل والأئمة، نبينا محمد الذي ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا نبهنا به، وعلى آله وصحبه الذين حفظوا سُنته، ونقلوا حياته وسيرته، وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
مما أثاره البعض في الآونة الأخيرة الاستدلال بكون النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة غير القرآن الكريم، محاولاً إلغاء السُّنة لكون تدوينها مخالفاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا استدلال باطل، وهي شبهة ليست جديدة ولا من ابتكار المروجين لها اليوم، وإنما هم يرددون دون وعي ما قاله المستشرقون الذين درسوا الإسلام بقصد الطعن فيه منذ عشرات السنين، من أمثال «جولدتسيهر»، و«دوزي»، وغيرهما، ومع ذلك نقول في الرد على ما ورد في السؤال ونبينه بما يلي:
النهي عن كتابة الحديث حكم منسوخ حيث مر بمرحلتين بعهد النبي.. المنع ثم الإذن
أولاً: إن النهي عن كتابة الحديث حكم منسوخ، وذلك لأن تدوين الحديث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مر بمرحلتين:
1- مرحلة النهي والمنع: وذلك حين نهى عن كتابة غير القرآن، وأمر من كتبوا غير القرآن بمحوه، وأصح ما ورد في هذا ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه»، وكان سبب هذا النهي الخوف من اختلاط والتباس الحديث بالقرآن.
2- مرحلة الإذن بالكتابة: وقد وردت عدة أحاديث تدل على إذنه صلى الله عليه وسلم بالكتابة، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قام خطيباً فقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، يقَالُ لَهُ أَبُو شَاهٍ، فقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتبُوا لِأَبِي شَاهٍ»، والحديث في الصحيحين، ومنها أن ابن عمر كان يكتب كل ما يسمعه من النبي عليه الصلاة والسلام فنهته قريش، فلما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك قال له وهو مشير إلى فمه: «اكْتُبْ فوَالَّذِي نفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ» (رواه أبو داود وصححه الألباني).
ثانياً: يقول الله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: 44)، فأي ذكر أنزله الله لتبيين ما أنزله إن لم يكن هو الحديث؟ وكونه تبياناً للقرآن يقتضي حفظه كالقرآن، ومن وسائل حفظه كتابته وتدوينه.
ثالثاً: إن القرآن تضمن الأحكام بصفة مجملة، كالصلاة والزكاة والحج وغيرها، وإنما ورد تفصيلها في السُّنة، فلو لم تُدون السُّنة هل كانوا يقدرون على أداء عبادة من القرآن فقط؟
القدح في الحديث بكونه لم يدوّن في الدواوين إلا بعد وفاة النبي يمكن تنزيله على القرآن أيضاً
رابعاً: يتضمن استدلاله بهذا اعترافاً صريحاً بحجية السُّنة، ويلزم من هذا اعترافه برواة السُّنة وناقلي الحديث ومناهجهم؛ إذ إن القائل لم يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يقول في قرن متأخر جداً، فكيف ثبت عنده هذا النهي.
خامساً: إن القدح في الحديث بكونه لم يدوّن في الدواوين إلا بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام يمكن تنزيله على القرآن أيضاً، حيث لم يجمع القرآن إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان مكتوباً مفرقاً عند جملة من الصحابة، ثم جمعه أبو بكر ثم عثمان رضي الله عنهم، وتناقله الرواة المقرئون حتى وصلنا اليوم، وكذلك الحديث، تناقله الرواة وما زالوا إلى اليوم، فما الذي يمنعهم من أن يطعنوا في القرآن بما طعنوا به في السُّنة؟
سادساً: المنطق يدعو من يريد الحقيقة إلى دراسة علوم السُّنة المتعلقة بالرواية حتى يتصوروا ما الذي يتكلمون عنه، وهذا خير لهم من التمترس وراء شبهة النهي عن كتابة الحديث؛ فقد تبين أن الرد عليها بيِّن واضح بفضل الله تعالى، فإذا كانوا يفهمون الحياد العلمي، فليتعرفوا على علم الإسناد وفق معايير النقد العلمي، فسيجدون أن الإسناد تراث حضاري تحسدنا الأمم عليه، وهو ما حفظ الله تعالى به هذا الدين، وما حرفت ديانات المستشرقين إلا حينما انقطعت أسانيدهم، كما قال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) (البقرة: 109).
الإسناد تراث حضاري تحسدنا الأمم عليه وهو ما حفظ الله به هذا الدين
شبه زائفة
وننبه بأن مثل هذه الشُّبه تنشط اليوم على يد طائفة من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، لا يعرف لها رأس، ولا يصح لها أساس، يطعنون في الدين ومصادره، مذهبهم الشك والتشكيك، رضعوا من ثدي العلمنة والزندقة والانحراف الفكري والأخلاقي، فيهم فرق وأشكال، منهم شرذمة تزعم أن مصدر الدين هو القرآن، وأن هذه الأحاديث ليست مضمونة الصحة، واستدلوا على هذا الادعاء بعدة أدلة تُبِين عن جهلهم وعدم اطلاعهم، وعن ضيق مداركهم، وقصر أبصارهم، يهرفون بما لا يعرفون، ولو درسوا علم مصطلح الحديث وحده لقضوا من ذلك عجباً، ولَبُهِتوا من الدقة والإحكام التي يتميز بها هذا العلم في غربلة الأحاديث، ولكُفينا ضجيجهم.
والحقيقة أن القوم لا يقصدون السُّنة فحسب، بل إنهم يبدؤون التشكيك في السُّنة، مرة في الآحاد، ومرة في بعض الروايات التي يزعمونها مخالفة للعقل، ثم ينطلقون للتشكيك في القرآن، فالبعض منهم ملحدون يتسترون وراء النقاشات العلمية لبعض القضايا، ويبثون تلك الأسئلة في بعض مساحات التواصل الاجتماعي بقصد التشكيك وإرباك الشباب، وحينما يواجهون من بعض المتخصصين في علوم الشريعة، فإنهم يلجؤون إلى أساليب الاستفزاز والسب والشتم مما يدل على إفلاسهم العلمي والأخلاقي.
القائل بأن النبي نهى عن كتابة الحديث أراد نكران الاحتجاج بالحديث والعمل به فوقع في الذي كان يريد نكرانه
وفي الختام، إن سليم العقل وصافي الفطرة لا يستدل بشيء ينكره ولا يعترف به، وإنما يقع في مثل هذا من تلاعبت بهم الأهواء، وغلبت عليهم الشهوات، فالقائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الحديث أراد نكران الاحتجاج بالحديث والعمل به فوقع في الذي كان يريد نكرانه، حيث استدل بالحديث من حيث أراد إنكاره.
والحق الحق إنما هي أهواء طغت، وعقول انتكست، وفطرة فسدت، فاللهم ارزقنا الثبات على دينك وسُنة نبيك، آمين.
والله أعلم.
______________________________
(*) أستاذ الفقه وأصوله بقطر، عضو مجلس الأمناء بالهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام.