انشغل الشارع المصري في الفترة الماضية بفيلم “أصحاب ولا أعز” الذي تم عرضه على منصة نتفليكس، ولم يتوقف الأمر عند العامة بل دخلت النخبة من سياسيين وإعلاميين وكتاب في الجدل الدائر بين من يؤيد حرية الفن المطلقة ومن يجد أن للفن رسالة مجتمعية ووظيفة توجيهية، حتى إن عددًا من برامج “التوك شو” الواسعة الانتشار في مصر، أدلى مقدموها بدلائهم في الأمر، ونفخوا في فقاعة الهواء لتتضخم بلا قيمة. وأثناء هذا الجدل العقيم تحدث البعض عرضا عن قيم المجتمع وضرورة الحفاظ على هويته ضد أي محاولات خارجية لمحوها وإشاعة قيم بديلة لا تناسب ثقافتنا وحضارتنا وديننا بحجج الحداثة والتمدن.
أثناء كل ذلك وقبله وبعده، لم أجد على مواقع التواصل الاجتماعي ولا برامج “التوك شو” ولا في مقالات الكتاب حديثا عن موقف مصر أو غيرها من الدول العربية من الأزمة الأوكرانية، وما هي التداعيات التي يمكن أن تؤثر فينا إذا تدخلت روسيا عسكريا هناك أو العكس، ونفس الأمر بالنسبة لمفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني رغم أن إيران قوة إقليمية لها تأثير في المنطقة، وكذلك لم يناقش أحد صعود الصين المتنامي على الساحة الدولية وما سيتبعه من تغيير في النظام العالمي ونحن جزء منه. وتعجبت لمن يتحدث عن حماية قيمنا وهويتنا ومنطقتنا تحولت إلى ملعب مفتوح أمام القوى الإقليمية غير العربية والدولية، وساحة صراع وحروب مهددة في أمنها وحدودها، مما أضعف إمكانياتها وأهدر قدراتها، ولم يعد لدينا ما نقدمه للعالم غير اللاجئين وأزمات يعاد تدويرها.
*****
لماذا أصبحنا منكفئين على أنفسنا إلى هذا الحد، ننتظر وقوع البلاء في وهن وتكاسل مزرٍ، ولا نفكر حتى في كيفية التقليل من خسائره عند حدوثه، وكأننا مصابون بلعنة الدوائر المغلقة التي نسير فيها طويلا وتستهلك طاقتنا لنعود بعد حين لنفس البدايات الخاطئة. لا نريد أن نخرج منها لننظر حولنا ونتأمل ما يدور حولنا على الساحة الدولية من أحداث تحمل في طياتها صعوبات وتعقيدات وتشابكات بالغة الحساسية والدقة، ويبدو كل منها خيارًا صعبًا لغيرنا ولنا في نهاية الأمر.
والأزمة الأوكرانية على قائمة هذه الملفات الآن، يتلوها الملف النووي الإيراني ثم الحد من التوسع الاقتصادي والنفوذ الصيني، ورغم أن الملف الأخير هو الأهم بالنسبة لأمريكا على وجه الخصوص لكنه الآن ليس على قائمة الأولويات العاجلة، فسمعة أمريكا كقطب أوحد مهيمن على كل ما يدور في بلدان العالم شرقًا وغربًا على المحك، والدول صغيرها وكبيرها تنتظر رد فعلها تجاه الملف الأوكراني والإيراني، وهذا التحرك سيكون له عظيم الأثر على النظام العالمي وكذلك سيظهر مدى تأثير سلاح العقوبات الذي تشهره الإدارة الأمريكية في وجه الدول المارقة من وجهة نظرها وكل هذا لنا فيه نصيب رغمًا عنا.
****
الأزمة الأوكرانية ليست مجرد أزمة جيوسياسية، بل هي درس تاريخي، يؤكد أن القوة هي التي تحمي الحقوق وأن الأيام دول بين الشعوب. الزعيم الروسي “فلاديمير بوتين” يتعامل مع الأزمة الأوكرانية مستحضرًا تاريخًا بعينه، وهو توقيت اجتماع القمة السوفيتي الأمريكي في مالطا مطلع ديسمبر عام 1989، حين التقى الزعيم السوفيتي “غورباتشوف” بنظيره الأمريكي بوش الأب، وهو لقاء القمة الذي عرفه العالم تحت عنوان “إعلان نهاية الحرب الباردة”، حيث قدم غورباتشوف سلسلة من التنازلات غير المسبوقة، تجاهل فيها توصيات المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي ومنها ما تعلق بتوحيد شطري ألمانيا. وكان المكتب السياسي قد أعلن عن احتمالات قبوله بتوحيد شطري ألمانيا بشرط “قبول حل الناتو ووارسو، أو توحيدهما انطلاقًا من موافقة كل منهما”. لكن ما حدث هو انهيار حلف “وارسو” وتوسع واستقواء حلف “الناتو”.
لم يلتزم الغرب بوعده لـ”غورباتشوف” بأن حلف “الناتو” لن يتوسع شرقا ولن يضم دولا كانت ضمن الاتحاد السوفيتي حفاظًا على أمن روسيا. واستطاع “بوتين” أن يسترد جزءا من ميراث الاتحاد السوفيتي السابق كقوة عظمى مؤثرة على الساحة الدولية، وهو ليس مستعدا الآن لتقديم تنازلات فيما يخص الأمن القومي لبلاده كما فعل “غورباتشوف” من قبل، ولقد أعرب مرارًا عن اعتقاده أن الغرب تجاهل عن عمد وغطرسة واستعلاء مطالب روسيا الأمنية على مدى عقود، وآن الأوان لاستعادة ما تم سلبه بعد أن قويت شوكة روسيا وأصبحت لديها قوة ردع وهجوم.
أما الدول الأوربية فهي تستحضر أيضا تاريخًا آخر وهو 30 سبتمبر عام 1938 وهو تاريخ معاهدة ميونخ التي تمت بين هتلر وزعماء بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وكانت بمثابة تسوية سمح فيها زعماء هذه الدول بضم ألمانيا لمنطقة السوديت التابعة لـتشيكوسلوفاكيا في محاولة لاحتواء ألمانيا النازية وتجنب اندلاع حرب عالمية أخرى.
ما يحدث الآن أمامنا دليل على أن بقاء الحال من المحال، وهو ما يعطينا أملًا بأنه إذا تغيّر العالم العربي إلى الأفضل وقويت شوكته يمكنه فرض واقع جديد فيما يخص القضية الفلسطينية وقضايا أخرى مهمة عالقة في مفاوضات لا طائل من ورائها.
****
التفاوض حول الأزمة الأوكرانية يتم بين أطراف متعددة على مستوى متقارب من القوة والتأثير، كل منها يريد الانتصار لوجهة نظره، كل الأطراف الفاعلة تدرك أن الجميع سيخسر لو انتقلت المعركة من مائدة المفاوضات إلى ساحة الحرب ولن يخرج أي طرف منتصرا بالضربة القاضية، بل ستكون جولة تتبعها جولات تستنفذ الجهد والمال وتدفع ثمنها الشعوب، وهو ما يجعل جميع الأطراف تقف على سطح صفيح ساخن ويجعل من المفاوضات أمرا حتميا مهما كانت صعوبتها، فهي الأمل الوحيد لخروج الجميع فائزًا دون أن تنكسر إرادته أو يخسر مكانته. ما يحدث في الأزمة الأوكرانية ينطبق على مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني وكذلك المنافسة الدائرة بين أمريكا والصين، الكل يسير على حبل مشدود في الهواء وعليه أن يحسب ألف مرة وقع خطواته ويحافظ على اتزانه وثباته.
****
عودة لعالمنا العربي وتساؤل مشروع حول مدى استعداد الدول العربية -على ما بينها من اختلافات في التوجهات والتحالفات الاستراتيجية- لتقبل السيناريوهات المختلفة لنتائج هذه الأحداث العالمية الساخنة، وما هو رد فعلنا تجاهها؟ وكيف يمكن أن نعد أنفسنا ونحمي أنفسنا من تداعياتها؟ حتى لا تفرض علينا سياسات وقرارات فرضا دون أن يكون لنا حول أو قوة..
ومن ناحية أخرى علينا أن نستوعب درس التاريخ المتكرر: الحق يحتاج إلى قوة تحميه، والمفاوضات الحقيقية لا بد أن تكون بين أطراف على مستوى متقارب من القوة والتأثير، ولا يمكن لطرف أن يجلس على مائدة المفاوضات في مواجهة طرف لا يخشى غضبه.. فهذا ليس تفاوضًا، بل هو مضيعة للوقت والجهد والنفقات.
——–
المصدر: موقع الجزيرة مباشر.