الهند بلد السحر والأساطير والعجائب والحكمة، وعلاقتها ببلاد العرب ضاربة في أعماق التاريخ؛ ففي الجاهلية كان العرب يستوردون الأسلحة من هناك، وأشعارهم مشحونة بالحديث عن السيوف الهندية، يقول تأبَّط شرّاً:
وفي عُنقي سيفٌ حسامٌ مهنَّدٌ ومُرهفةٌ زورٌ شدادٌ عُيورُها(1)
وقال الأعشى:
في فتيةٍ كسيوف الهند قد علموا أنْ هالكٌ كلّ من يحفى وينتعل(2)
ونحن نرى أن كلمة الهند وما اشتق منها جرت بها ألسنة العوام والأدباء؛ فما كان من بدٍّ أن تدخل المعاجم اللغوية العربية.
قال الأزهري: «وأصل التهنِيد في السَّيْف أن يُطبَعَ ببلاد الهند ويُحكم عملُ شَحْذِه حتى لا ينبُو عن الضَّرِيبة يقال: سيفٌ مُهَنَّد وهِنْديٌّ وهُنْدُوانيّ إذا سوي وطُبِع بالهنْد»(3)، ووصل الإسلام إلى الهند مبكراً في القرن الأول الهجري؛ حيث دخلها عماد الدين محمد بن القاسم عام 94هـ.
شق الإسلام طريقه في شبه القارة الهندية حتى تمكن من حكمها ودان له الجميع من كل الأديان والألسنة المنتشرة هناك، وزال هذا الحكم بدخول الإنجليز وإحكام سيطرتها على تلك البلاد في القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي).
وبعد استقلال شبه القارة الهندية عن التاج البريطاني، انقسمت إلى الهند وباكستان عام 1947م، ثم حدث انفصال بنجلاديش عن باكستان عام 1971م.
وقسمت شبه القارة على أساس ديني؛ أي أن باكستان قامت على القومية الإسلامية، وقامت الهند على المناطق ذات الأغلبية الهندوسية والسيخية.
إلا أن الهند بقي فيها مسلمون يمثلون نسبة تقترب من 14% من عدد السكان الذي يقترب من مليار وأربعمائة مليون؛ فالمسلمون يشكلون فيها أكبر أقلية في العالم، وتعتبر الهند الدولة الثالثة عالمياً من حيث عدد السكان المسلمين بها.
وقد قامت حروب تطهير عرقي في الهند ضد المسلمين الموجودين فيها بعد التقسيم.
ولا تزال تلك التوترات تظهر بين حين وآخر، يغذيها متطرفون من الرهبان والساسة، وتلقى آذاناً صاغية من العوام.
ونريد أن نسلط الضوء هنا على تعامل الشرطة وعناصر الأمن مع تلك التوترات الطائفية؛ فالشرطة في أي مكان هي عناصر مدنية تعمل على تحقيق الأمن والاستقرار وضبط الأوضاع في المجتمع، وتجتهد في منع وقوع الجريمة ابتداء، والقبض على مرتكبيها إن وقعت وتفكيك خيوطها وكشف ألغازها، ثم تنفيذ العقوبة الصادرة من الجهات القضائية بحق الجناة والمجرمين، وفي المجمل فهي تحافظ على الأمن العام والآداب.
فإذا التزمت الشرطة بتلك الأهداف والغايات فإنها بذلك تكون ملكاً للأمة بأسرها، وليست أداة طيعة في يد نظام سياسي للقمع والبطش بالشعب، وإذا كانت ملكاً للأمة فإنها لن تكون كذلك منحازة لفصيل أو طائفة على حساب أخرى؛ فالكل عندها سواء.
وعندما تكون ملكاً للأمة كلها، فإنها تكون صمام الأمان للجميع، والمظلة التي يأوي إليها الجميع، وكذلك الجهة التي يرهبها المجرمون العتاة.
«رايتس ووتش»: ما حدث في كوجرات لم يكن انتفاضة تلقائية وإنما هجوم مدبر ضد المسلمين
لا أوامر لإنقاذكم
وسنتعرف على الشرطة الهندية هل هي حامية للأمة بجميع طوائفها، أم منحازة لفئة ضد أخرى؛ ففي بداية الألفية قامت فتنة كبيرة بين المسلمين والهندوس، خلَّفت أكثر من ألف قتيل معظمهم من المسلمين، وتعد تلك الأحداث من أسوأ موجات العنف التي شهدتها الهند.
وألقى تقرير منظمة «هيومن رايتس ووتش» الضوء على دور الشرطة في تلك الأحداث؛ حيث تقول «سميتا نارولا»، الباحثة الأولى في قسم آسيا بمنظمة «مراقبة حقوق الإنسان» (4): “إن ما حدث في كوجرات لم يكن انتفاضة تلقائية، وإنما هجوم مدبر بعناية ضد المسلمين؛ فقد تم التخطيط للهجمات مسبقاً، وتم تنظيمها بمشاركة واسعة النطاق من جانب مسؤولين في شرطة الولاية وحكومتها”.
وقد تبين أن الشرطة قد تورطت بصورة مباشرة في جميع الهجمات التي وقعت على المسلمين تقريباً، التي وثقتها المنظمة في تقريرها الذي يقع في 75 صفحة، والصادر تحت عنوان “ليست لدينا أوامر بإنقاذكم: مشاركة الحكومة وتواطؤها في العنف الطائفي في كوجرات”.
وقد اكتفى مسؤولو الشرطة في بعض الحالات بمراقبة الأحداث دون أن يحركوا ساكناً وكأن الأمر لا يعنيهم، ولكنهم في كثير من الأحيان قادوا الهجمات التي شنتها جماعات القتلة من الغوغاء، وراحوا يصوبون بنادقهم على كل من يعترض سبيلهم من المسلمين ويطلقون النار عليهم، وتظاهر بعض ضباط الشرطة بتقديم المساعدة للضحايا بينما كانوا يسوقونهم إلى أيدي قتلتهم مباشرة.
أما المكالمات الهاتفية التي أجراها الضحايا المذعورون مع أجهزة الشرطة أو المطافئ، أو حتى الإسعاف، فقد كانت عديمة الجدوى في مجملها، وأفاد عدة شهود بأن الشرطة قالت لهم: “ليست لدينا أوامر لإنقاذكم”.
وذكر شهود عيان كيف قادت الشرطة الهجمات على المسلمين، وأن رجالها صوبوا أسلحتهم على الصبية المسلمين وأطلقوا النار عليهم؛ ثم اشتركوا مع الهندوس في إضرام النيران في المنازل ونهبها.
بعض ضباط الشرطة تظاهروا بتقديم المساعدة للضحايا بينما كانوا يسوقونهم إلى أيدي قتلتهم!
ولم يتوقف الأمر من الشرطة عند انغماسها في تلك الدماء، بل راحت تتستر على المحرضين، جاء في التقرير: وتبذل إدارة ولاية كوجرات محاولات واسعة النطاق للتستر على دور الولاية في المجازر، ودور منظمات “سنغ باريفار”؛ فالعديد من البلاغات التي قدمها شهود عيان للشرطة في أعقاب الهجمات ذكرت بالتحديد أسماء زعماء محليين في “المجلس الهندوسي العالمي”، وحزب “بهاراتيا جاناتا”، وتنظيم “باجرانغ دال”، باعتبارهم من المحرضين أو المشاركين في أحداث العنف.
وحسب تقرير “هيومن رايتس ووتش”، فإن الشرطة -التي تتلقى تعليمات من إدارة الولاية حسبما ورد- تواجه ضغوطاً مستمرة لثنيها عن اعتقال هؤلاء، أو لحملها على تخفيف التهم الموجهة إليهم، ووصلت الضغوط حدّاً أن أقيل من مناصب القيادة كبار ضباط الشرطة الذين حاولوا حماية المسلمين.
وقد رأينا العام الماضي (2021م) ما تداولته منصات التواصل الاجتماعي من مقطع فيديو يظهر قوات الشرطة الهندية وهي تستهدف بأسلحتها أحد الفلاحين المسلمين، ثم تتابع التنكيل به عند سقوطه على الأرض ويشاركها مصور صحفي، وذلك خلال تهجير آلاف المسلمين في ولاية آسام بشمالي شرقي البلاد.
وخر الرجل على الأرض دون حراك وعلى جسده بقعة من الدماء، لكن ذلك لم يمنع عدداً من أفراد الشرطة من ضربه بالهراوات، وانضم إليهم مصور صحفي داس على جسده.
هذه الأفعال إذا تكررت فإنها تؤكد أنها ليست أفعالاً فردية، بل هي خطة ومنهج تتخذه الحكومة وتستخدم الشرطة في ذلك، وتؤكد أن الشرطة حامية للطائفية المقيتة وراعية لها.
وإذا استمر التحريض من الرهبان والذي يحتضنه الساسة وتنفذه الشرطة؛ فإن العواقب ستكون وخيمة على الدولة والمنطقة بأسرها.
______________________________________________
(1) الأشباه والنظائر من أشعار المتقدمين للخالديين، (2/166).
(2) خزانة الأدب للبغدادي، (5/426).
(3) تهذيب اللغة للأزهري، (6/115).