حين نعلم أن ضيفاً عزيزاً علينا في طريقه لزيارتنا بعد غياب؛ فإننا نسارع بالاستعداد لاستقباله قبل مجيئه بوقت، فننظف بيوتنا ونطهرها، ونرتبها ونعطرها، ونشتري ما يحبه الضيف من طيب الطعام، ونجهز له مكاناً مناسباً عندنا، ونتحفه بإحضار بعض الهدايا زيادة في إكرامه ومبالغة في حسن ضيافته، فإذا ما طلَّ علينا ووصل إلينا سُررنا بحضوره، وأخرجنا له أحسن ما عندنا من كل ما يسعده ويرضيه، وحرصنا غاية الحرص على أن نكون لائقين باستضافته، وزاد التكريم منا له امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» (رواه البخاري)؛ فهذا علامة الإيمان ودليل المحبة.
فما الحال إذا كان هذا الضيف تُعتَق بمجيئه النفوس، وتَحِل بحلوله البركات، ويفوح عبير نفحاته منذ أول ليلة له؟
فهل يليق بنا نحن أن نهمل استقباله، أو نقصر في إكرامه؟! أم أنه يجب علينا معاملتُه بما هو أهلٌ له، وتكريمُه بما يستحق؟
إنه ضيفنا المكرم شهر رمضان، الذي اختصه الله تعالى بنزول القرآن، كما قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: 185)، واختاره ليكون فيه خير ليلة في عمر الإنسان، واختصه بفريضة الصيام، وفيه ترقَى الروح وتنعم بمزيد من العطايا الربانية في ليله ونهاره، فأنعِم به مِن ضيف! وأهلاً بك يا رمضان.
قال النبي صلى الله عليه وسلم مبشراً لنا بالرحمة والأمان مع ظهور هلال رمضان: «إذا دخل رمضان فُتِّحت أبواب الجنة وغُلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين» (رواه البخاري)، وقال لأصحابه مهنئاً لهم حلول البركة مع حلول الشهر المبارك: «أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرم» (صحيح النسائي).
فهل لنا أن نستقبل رمضان كما نستقبل بقية شهور العام، وهو أيام قلائل سرعان ما تمضي وتفوت كما فات من قبل؟!
كيف لنا أن نستقبله ونحن نرجو أن نُعتَق فيه من النار، وأن يُستجاب لنا فيه الدعاء، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: «إن للهِ تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة (يعني في رمضانَ)، وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مُستجابة» (صحيح الترغيب).
ألا يستحق ذلك منا أن ننظف قلوبنا مما علق فيها من غبار الشهوات؟ ونتخلص مما فيها من خصومات، ونعقد العزم على طهارتها من دنس الذنوب، ونلينها من قسوتها، ونستخرج الرحمة منها بإطعام مسكين أو مسح رأس يتيم، ونستحثها على فعل الخيرات.
كيف يكون حالنا فيه ونحن نرجو أن تُرفع درجاتنا وتُمحَى زلاتنا وندرك ليلة القدر العظيمة التي وصفها الله تعالى فقال: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر: 3)، ألا يجدر بنا لهذا أن نستغل ساعاته النفيسة منذ أول لحظة يصل إلينا فيها؟!
كيف يكون حالنا في أيامه وكلها مغفرة، في ليله ونهاره، وقيامه وصيامه؟
جدد قلبك.. جدد إيمانك.. جدد نيتك:
على كل منا أن يعمل عمليةَ تجديدٍ لقلبه يتجدد معها إيمانه، وهذا يحتاج لتجديد النية وصدقها في العزم على استغلال كل لحظة في رمضان في عمل ما يحبه الله ويرضاه، نعزم عزماً مؤكداً على ذلك من أول يوم حتى إذا ما منعنا مانع عن العمل فيه من مرض أو عذر، أو في بعض أيامه ولياليه، كتب الله لنا الأجر على هذه النية الصالحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن هَمَّ بحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كُتِبَتْ له حَسَنَةً، ومَن هَمَّ بحَسَنَةٍ فَعَمِلَها، كُتِبَتْ له عَشْراً إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ» (رواه مسلم) «والهَمُّ هو النيَّةُ وعَقدُ العَزمِ» (الدرر السنية).
توبة إلى الله من جميع الذنوب:
والتوبة الصادقة تمحو الذنب وتذهبه، فتب إلى الله تعالى من كل الذنوب صغيرها وكبيرها، حتى لا تقفَ هذه الذنوب عقبة في طريقنا فتعطلنا عن العمل والجد، وعلينا أن نكثر من الحسنات التي تُذهِبُ سيئاتنا، ونقبل عليها بجد ونشاط دون كسل أو توان أو فتور، ومن آكد هذه الحسنات ردّ الحقوق إلى أهلها والتخلص من مظالم العباد.
تَعَلَّمْ من العلم ما تتم به عبادتك:
إن العبادة على علم بها سبيل إلى إتقانها، فتعلم أحكام الصوم وما يتعلق بهذه الفريضة العظيمة كالقيام والاعتكاف وزكاة الفطر له الأثر الكبير في حسن العبادة وأدائها الأداء الصحيح، إذ كيف يصوم المسلم دون أن يعرف كيف يكون صومه صحيحاً؟ ومتى يبطل؟ وكيف يتأدب أثناء صيامه؟! فتعلم ما يحتاجه المسلم لأداء عبادته الواجبة عليه ليس نافلة من العلم بالنسبة له، بل هو واجب عليه.
خطة إيمانية رمضانية:
إننا نخطط لأمور حياتنا بدقة، ونرسم في أذهاننا الصورة التي نرجوها لمستقبلنا العلمي أو الوظيفي أو الأسري، فجدير بنا من باب أولى أن يكون لكل منا خطته الإيمانية الخاصة به في شهر رمضان، ماذا يعمل فيه من عبادات، وكم يتدبر من آيات، كيف تكون صلته بالقرآن تلاوة وفهماً وعملاً، وكيف يمارس خلق الإخلاص ويتدرب عليه فلا يرى في أي عمل يعمله إلا الله، ولا يتطلع لأجر أو ثناء من أحد إلا من الله تعالى، وكيف يزيد من إيمانه بالله وحسن التوكل عليه والثقة فيما عنده حتى يرضى بحلو القضاء ومره، وخيره وشره، كيف يغير الصائم من عاداته السيئة ويتخلص منها، وكيف يكتسب عادات حميدة وفضائل جديدة، كيف يعيد علاقاته بأهله وأرحامه ويصلهم مهما قطعوه، ويحسن إلى جيرانه وإن آذوه وهجروه، ويراجع نفسه في معاملة الآخرين فيحسن إليهم في علاقاته معهم، فخطة الصائم في رمضان متكاملة، وليكن الشعار فيها «وعجلت إليك رب لترضى».
صلح ومعاهدة مع النفس:
كما أن علينا أن نقوم بالتصالح مع النفس، وعقد اتفاق معها والعزم على تزكيتها، وحملها على الأدب والتخلق بأخلاق الصيام؛ فنتعلم ونعلم غيرنا كيف نحلِم وكيف نكظم غيظنا وكيف يكون صيامنا ظاهراً وباطناً، وذلك يتطلب منا أن نلجم نفوسنا بلجام التقوى لتصير طيبة مباركة، ونسير بها في طريق الإخلاص وإتقان العمل حتى لا يضيع، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ربَّ صائمٍ ليسَ لَه من صيامِه إلَّا الجوعُ وربَّ قائمٍ ليسَ لَه من قيامِه إلَّا السَّهرُ» (صحيح ابن ماجة).
ولنعلم مع كل ما سبق أن التوفيق من الله تعالى وحده، وما علينا إلا أن نأخذ بأسبابه، ولندعُ الله عز وجل ونطلب منه أن يوفقنا لطاعته، وأن يعيننا على صيام رمضان وقيامه، وأن يُرى أثر الصيام والقيام علينا في أعمالنا وأخلاقنا ومعاملاتنا وسلوكنا، وأن يتقبل منا.. وأهلا بك يا رمضان.