المشهد الحالي الذي تعيشه الأمة في مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن وتركستان الشرقية والهند وغيرها من بلاد المسلمين قد يتسرب به الإحباط والقنوط واليأس إلى النفوس، وتبدو معه الصورة قاتمة فلا يرى الناس طاقة نور ولا ساحة فعل وتأثير، لا سيما إذا أضفنا لهذا حالة الموت السريري التي تتلبس بها الحركات العاملة للإسلام.
وإنني في هذه السطور أود أن ألفت النظر إلى حالة حقيقية أراها تشكلت وتتشكل في الأمة –ويراها غيري- بما يخرج النفوس من هذه الحالة السلبية إلى آفاق حالة إيجابية تبعث على التفاؤل والأمل، وتقود إلى النشاط والعمل، وتحمل على بذل الجهد ومنح العطاء الموصول.
مشهد الصلاة في المسجد الحرام
رأينا هذه الحالة التي تتشكل، والتي تدل على أن الخير سيظل موجودا في هذه الأمة، تتجسد في هذه الجموع الهادرة التي رأيناها حول الكعبة في صلوات التراويح في رمضان، بعد أن رفع الحظر عن الصلاة فيه وسمح بصلاة القيام والتهجد، فقد رأينا هذه الأعداد الهائلة التي قُدّرتْ بأربعة ملايين مسلم يصلون في البيت العتيق! ولا يبعد مشهد المسجد النبوي الشريف عن هذا المشهد.
مشهد يسر الناظرين، ويبرد قلوب المؤمنين، ويعيد الأمل إلى نفوس العاملين، ويبرهن على خيرية هذه الأمة
فهذا مظهر جلي لبقاء الخير في هذه الأمة، وأنه لن ينمحي أبدا، كما أنه رد واضح على كل المحاولات التي بذلت من سنوات لتغيير الهوية وتغريب الفكر، وصبه في قالب الغرب؛ فهو مشهد يسر الناظرين، ويبرد قلوب المؤمنين، ويعيد الأمل إلى نفوس العاملين، ويبرهن على خيرية هذه الأمة.
الصلاة في الأقصى
ونرى من تجليات هذه الحالة الإحيائية، حالة الوعي الجديد والفكر المتوثب، في ردة الفعل الفلسطينيي المقاوم والمجاهد والمرابط، والأمة من خلفهم، على حالة الاقتحامات التي نظمها الصهاينة فيما يسمى “عيد الفصح” رمضان 1443هـ من تصدٍّ واضح واعتصام مبين ورباط مدهش داخل ساحات المسجد الأقصى، والجموع الحاشدة التي تجلت في صلاة الجمعة الأخيرة وقبل الأخيرة من الشهر الكريم، والحشود الكبيرة في ليالي القدر، والتكبيرات (تكبيرات العيد) التي رأينها عند خروجهم من المسجد قبل حلول العيد، في أعداد قدرت بربع مليون مسلم..
هذا المشهد يعيد التوازن النفسي للأرواح، ويبث الأمل في النفوس، ويبعث التفاؤل الإيجابي، ويطرد الوساوس السلبية ويطارد الإحباط من واقع الأمة الحالي الذي يبدو مترديًا.
القرآن والصلوات في مصر
ما إن اقتربنا من الأيام العشر في مصر حتى ظهرت تصريحات لمختار جمعة (وزير الأوقاف المصري) بقرارات تمنع صلاة التهجد، وتحدد وقتا لصلاة التراويح وصلاة العيد، مع العبارات النابية التي تخالف الشرع الشريف، وتصدم الشعور الإسلامي العام بأن المساجد ليست فنادق ومن أراد الاعتكاف فليعتكف في بيته… ونحو هذا!
قوبلت هذه التصريحات بهجمة شرسة استنكرت هذا التعدي على عبادات المسلمين، ورفضت منع صلاة التهجد، ولما رأت السلطات هذه الحالة تراجعت أمامها وسمحت بصلاة التهجد في النصف الأخير من العشر الأواخر، فما الذي حدث؟!
هذا رد واضح على محاولات العلمنة ومحاولات تغييب الشعب المصري ومسخ هويته، ورفض أن يصبه أحد في قالب غير قالب الإسلام العظيم
رأينا الجموع الهادرة تملأ المساجد، وتملأ الشوارع خارج المساجد، وهذه رسالة مباشرة، وحالة واضحة تتشكل من جديد وتضاف للرفض العلني لقررارات مختار جمعة ومن معه، بما يبشر أن الأمة المصرية بخير كبير، وعناصر الخير لن تظل قائمة وموجودة فيهم رغم كل المحاولات التي تبذل وينفق عليها المال الطائل {وما يعلم جنود ربك إلا هو}.
وكان ختام هذا المشهد بصلاة العيد، عيد الفطر 1443هـ والتي ملأت آفاق مصر وشوارعها؛ فكانت الجموع محتشدة على امتداد البصر، بما عبر عن الحالة الحقيقية للشعب المصري، حالة الاستعصاء على الذوبان، أو الوقوع تحت تهديد نزع الهوية والاستلاب العقدي، أو الرضوخ لمحاولات الحرب على العقيدة والشعائر الكبرى!
كما أننا شهدنا في شهر رمضان المبارك الحفلات المتتالية لتكريم حفظة القرآن الكريم، وتنظيم المسيرات الكبيرة لحفاظ القرآن الكريم؛ ابتهاجا وفرحًا بإنجاز الحفظ للقرآن، ظهر هذا في عدة محافظات مصرية، وهذا رد واضح على محاولات العلمنة ومحاولات تغييب الشعب المصري ومسخ هويته، ورفض أن يصبه أحد في قالب غير قالب الإسلام العظيم.
موقف الحركات الإسلامية
في ظل حالة التشقق والتقزم وعدم الفاعلية التي تعاني منها الحركات الإسلامية قد يرى البعض العالم من منظور هذه الحركات، ويرى أن الإسلام في خطر مع هذا الضعف والتردي، بل الفشل والفناء كما تقتضيه سنة الله تعالى في المجتمعات والدول والجماعات، ويتعامى هذا البعض أو يعمى عن هذه الحالة الإحيائية التي تبث الوعي في العقول، وتعيد الأمل في النفوس؛ لأنه لا يرى العالم إلا من منظوره الضيق!
إن الأجيال الصاعدة لم تعد تؤمن إلا بالنظر للأمة من منظورها الواسع، بعد أن سقط في نظر هذه الأجيال قدوات وحركات ورموز بسبب ما أحدثته من خسائر وما أثبتته من فشل في ممارسة العمل السياسي وغيره؛ فهذا الخير “العام” يحتاج إلى نظر حقيقي وإلى أن “يُرى” لا أن نتعامى عنه بمنظارنا الضيق، وهذا الخير يحتاج لتعزيز واستثمار، كي تتحقق به آمال الأمة، ونتحرى به تحقيق مقاصد الدعوة إلى الإسلام.
هذا الخير يحتاج لتعزيز واستثمار، كي تتحقق به آمال الأمة، ونتحرى به تحقيق مقاصد الدعوة إلى الإسلام
إن هذه المشاهد التي رأيناها بإعجاب، وتابعناها باندهاش، في الحرم المكي وفي المسجد الأقصى وفي مصر لتضعُ أيديَنا على حقيقة جلية، هي أن هذه الأمة سيظل فيها الخير إلى يوم القيامة، وسوف تظل عصية على كل محاولات المسخ الفطري، والمسح للهوية، والتشويه للعقيدة وللدين، والافتراء على العاملين له، وإن رصيد الفطرة لهو خير ضامن لاستبقاء الخير المشار إليه، وهي الأودية التي ستلتقي على قدر في نهر العمل الدعوي، والتجديد المنتظر لهذا الدين العظيم.