من خلال سياسة الحديد والنار تارة والتغلغل الناعم تارة أخرى تسعى سلطات الاحتلال لـ”هندسة وعي” المقدسيين، في محاولة لإيجاد فلسطيني جديد يتقبل الاحتلال ويتفهم ممارساته ويتعامل معها على أنها ممارسات روتينية.
ولا تهدف المضامين التي يمررها الاحتلال عبر عدة أدوات لهندسة وعي المقدسيين من ناحية سياسية فحسب، بل تتعدى ذلك لإعادة تشكيل وعيهم من ناحية دينية واجتماعية وثقافية واقتصادية.
المحامي المختص في قضايا القدس خالد زبارقة استهل حديثه لـ”الجزيرة نت” بالتطرق لسياسة هندسة الوعي في المسائل الدينية متخذاً المسجد الأقصى مثالاً.
وأشار زبارقة إلى تكثيف الاحتلال محاولاته لتغيير مفهوم المسجد الأقصى بالتركيز على قدسيته عند اليهود وتقليص الحديث عن القدسية الإسلامية لهذا المكان للحد الأدنى، مضيفاً أنه يسير بهذا الاتجاه من خلال خطط وممارسات يومية داخل باحات أولى القبلتين لتكريس هذا الفكر.
زرع الرواية التوراتية وتثبيتها
وبالتزامن مع هذه الرؤية، يواصل الاحتلال سرد وتثبيت روايته التوراتية حول كل حجر في القدس، في سعي لتطويع المقدسي وإقناعه بها تدريجياً حتى يخضع لإرادة المحتل، وفقاً لزبارقة الذي يقول: “غيرت سلطات الاحتلال معالم المدينة وشوهت فضاءها العام وهوّدت أسماء الشوارع والأزقة ليجد المقدسي نفسه أمام رواية متسلسلة متكاملة تُزرع عبر أدوات مختلفة منها المفردات الإعلامية وشخصيات مختلفة من إعلاميين وأكاديميين ومؤرخين يختصون ببث الرواية بشكل ناعم حتى تصبح مقبولة”.
ويلجأ الاحتلال للأدوات الخشنة في حال عدم الرضوخ لسياسة كي الوعي الناعمة حسب المحامي زبارقة، فيستهدف مثلاً رواد المسجد الأقصى والمدافعين عنه بعقوبة الإبعاد، والناشطين بفضح ممارسات الاحتلال على المنصات الاجتماعية بتوجيه تهمة التحريض لهم وزجهم في السجون أو منعهم من السفر أو فرض الإقامة الجبرية عليهم وغيرها من العقوبات.
ويسعى الاحتلال من خلال ذلك لدفع المقدسيين بالقوة لقبول ممارساته وروايته وللبحث عن مصالحهم الاقتصادية والشخصية فقط وانتزاع الجانب النضالي ومقاومة الاحتلال من حياتهم.
وفي إجابته عن سؤال لـ”الجزيرة نت” عما إذا كان الاحتلال قد نجح بالفعل في سلخ الفلسطينيين بالقدس عن قضيتهم وهويتهم وأرضهم أجاب زبارقة أن “إسرائيل” لم تنجح في إقناع المقدسي بروايتها، لكنها في الوقت ذاته نجحت نسبياً في دفعه للصمت وعدم التعبير عن الرأي خاصة عبر المنصات الاجتماعية، لأنه بات يعلم أن مصيره سيكون قاتماً، وهذا يندرج في إطار هندسة الوعي بالتأكيد.
رئيس لجنة أهالي الأسرى المقدسيين أمجد أبو عصب يرى أن سلطات الاحتلال فشلت في إعادة تشكيل وعي المقدسيين، قائلاً: إن ممارسات الاحتلال تنغص أبسط تفاصيل حياة المقدسيين اليومية منذ عام 1967، وما زال هؤلاء يردون على هذه الممارسات بمزيد من التمسك بالأرض والثوابت، وما حصل في سلوان والشيخ جراح وباب العامود والمسجد الأقصى يؤكد ذلك.
وتطرق أبو عصب للإجراءات اليومية الرامية لتفريغ البلدة القديمة والمسجد الأقصى ومحاولة دب الرعب في قلوب المقدسيين ودفعهم للتردد في التوجه لهما، خوفاً من الملاحقة والمخالفات التعسفية التي تفرض على مركباتهم.
خطط تفريغ ممنهجة
بالتزامن مع تجفيف البلدة القديمة من المتسوقين والحركة الشرائية، منحت بلدية الاحتلال التراخيص لبناء المحال التجارية في بلدتي شعفاط وبيت حنينا شمال المدينة، فاستهدفت وعي المقدسيين بشكل هادئ، ودفعت بعض التجار لهجرة البلدة القديمة نحو هذه الأحياء التي تتوفر أمام محالها مواقف للسيارات بالإضافة لحرية التسوق دون وجود احتلالي عسكري كما في أسواق العتيقة، أضاف أبو عصب.
تحويل الانتهاكات في المسجد الأقصى ومحيطه إلى أمر واقع، كما يؤكد رئيس لجنة أهالي الأسرى، أن الاحتلال يهدف لتكريسها في أذهان المقدسيين حتى تصبح أمراً روتينياً طبيعياً في نظرهم، كاقتحامات المتطرفين للمسجد الأقصى وأداء طقوسهم بشكل علني داخله، ورفع العلم “الإسرائيلي” بشكل جماعي في المدينة.
وختم أبو عصب حديثه لـ”الجزيرة نت” بالقول: إن الاحتلال يهدف عبر فرض العقوبات الجماعية من هدم للمنازل وسحب للإقامات وإقامة جبرية ضد الناشطين المقدسيين لإيصال رسالة ردع للآخرين بأنه لا مفر أمامهم سوى القبول بسياسة الأمر الواقع، أو مواجهة مصير اجتماعي واقتصادي قاتم في حال قرروا التمرد.
____________________
(*) المصدر: “الجزيرة.نت”.