أثناء عملي في قناة “الجزيرة” بالدوحة، التقيت بالشيخ الجليل الراحل د. يوسف القرضاوي، رحمه الله تعالى، عند تسجيله لإحدى حلقات برنامج “الشريعة والحياة”، وذكرته بمبادرته لإنشاء وقف الموهوبين قبل سنوات، وهو وقف يرعى الموهوبين تعليماً وتدريباً وبعد التخرج.
سرح الشيخ ببصره لبرهة وقال بحسرة: للأسف المشروع لم يكتمل، سألته عن السبب، فقال: إنه كانت هناك وعود بالتمويل ثم توقفت، فسألته إن كان لا يزال متحمساً للمشروع، فقال: طبعاً، وأكد أنه لا يزال يحلم به، عرضت عليه أن أكتب ورقة مبدئية لإحياء الفكرة، فوافق على الفور، وأثناء قدومه للقناة لتسجيل حلقة الأسبوع التالي من البرنامج كان التصور جاهزاً بين يديه.
مرت الأيام وانشغل الشيخ وانشغلت أنا أيضاً وتوقف المشروع، ثم أطل موسم الثورات العربية وجرت في النهر مياه كثيرة من الأمل ثم الألم، وبعد أن انتقل الشيخ إلى جوار ربه رأيت أن من واجبي أن أطرح فكرة المشروع على الملأ، لعل الله يكتب لها التنفيذ على أيدي أهل الخير لما فيها من فائدة للأجيال الجديدة ووفاء لذكرى الشيخ وتراثه وعلمه.
فكرة الوقف كما طرحها الشيخ تنطلق من أن العالم الإسلامي يفتقد لشبكة تضم الموهوبين في المجالات المختلفة، فكثير من النابغين لا تستفيد منهم أوطانهم، فهم إما يهاجرون للدول الغربية أو يدورون في فلك واقع محبط يكتنف معظم الدول العربية والإسلامية، ولهذا فكر الشيخ في أن يكون هناك وقف مستقل يكتشف المواهب بعد المرحلة الثانوية وفي مرحلة الدراسات العليا ويقدم لها فرصاً تعليمية، سواء في الدول الإسلامية أو في أي دولة أخرى بناء على شروط من التزكية والاختيار تحدده إدارة الوقف، وهنا يتم منح الطالب دعماً مادياً لاستكمال الدراسة ورعاية أثناء هذه الفترة، بشرط أن يوقّع على تعهد بأمرين؛ الأول: أن يكون عضواً في الوقف يفيده بعد تخرجه، والثاني: أن يستخدم علمه وخبرته لفائدة إحدى الدول الإسلامية.
وكان الشيخ يرى أن فترة الرعاية أثناء الدراسة لا بد من أن تشمل وصل الطلاب بعضهم بعضاً، سواء عن طريق دارسي التخصص الواحد أو المنتمين للغة أو دولة واحدة لتحقيق التجانس والتآلف بينهم، كما يتم عقد مؤتمر سنوي للخريجين تقدم فيه الأوراق والأفكار المتعلقة بدعم الوقف ودعم المشاريع المختلفة في الدول الإسلامية، والمساهمة في تقديم التدريب للأجيال الجديدة عبر التعاون مع الجامعات والمؤسسات المختلفة.
وعند نقاش الشيخ في مسألة التمويل، كان، رحمه الله، يرى أن كل المشاريع التي أطلقها كان يكتفي بأن يعلن عنها ثم يرسل الله تعالى له من يتكفل بها وتسير بالقصور الذاتي من دون تدخل أو رعاية مباشرة منه، ولهذا كان عنده أمل كبير بأن المشروع لو سار خطوات قليلة للأمام سيتداعى له رجال الأعمال وكثير من جهات التمويل، أضفت لما طرحه الشيخ بعض الأفكار الأخرى التي ربما لا يتسع لها المقام هنا، لكن أذكر منها فكرة التعاون التعليمي مع الشركات الصناعية الكبرى العاملة في العالم الإسلامي، على غرار ربط الجانب التطبيقي بالجانب الأكاديمي، وهي التجربة التي تتميز بها المؤسسات التعليمية في الولايات المتحدة.
مثار حماسي لفكرة وقف الموهوبين أنني عاينت بنفسي أثناء دراستي الجامعية في بريطانيا كيف أن الجامعات الكبرى هناك هي أوقاف خيرية بالأساس، تسير بالقصور الذاتي وليست تابعة لوزارات التعليم كما في معظم الدول العربية والإسلامية، ومن هذه الجامعات أوكسفورد، وكامبريدج، وجامعة غلاسكو في أسكتلندا، وهي تقدم خدماتها التعليمية والبحثية والتدريبية بالإضافة للمنح الدراسية بشكل مستقل تماماً عن الدولة منذ عدة قرون، كما أن لكل منها برامج متابعة للخريجين للاستفادة منهم بعد التخرج.
وبالنظر للميراث الإسلامي العظيم لفكرة الوقف على مستوى النظري في الفقه وعلى المستوى العملي في تاريخ الأوقاف التعليمية؛ فإن الفكرة مرشحة للنجاح في حال تطبيقها بهذه الطريقة، إن شاء الله تعالى.
___________________________
(*) المصدر: موقع “عربي 21”.