بعد أن عجز منكرو السُّنَّة عن محوها والتشكيك فيها، التفوا من ناحية أخرى بخبث شديد، وقالوا: إن السُّنَّة غير صالحة لتشريعِ ما لم يرد في القرآن، بل هي بيان للقرآن وكفى، واعتبروا كل حكم تشريعي كان دليله السُّنَّة النبوية الصحيحة، مخالفاً للقرآن، وما يخالف القرآن كان باطلاً، وهذه الشبهة ينطبق عليها القول المأثور: “كلمة حق أريد بها باطل”.
نقض هذه الشبهة وبيان بطلانها
أولاً: ينبغي أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أن هذه الشبهة لم تظهر عند منكري السُّنَّة إلا بعد عجزهم التام عن محو السُّنَّة أو التشكيك فيها، فأراد هؤلاء الماكرون أن يلتفوا حول السُّنَّة بشبهات لا تمس صحة صدورها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يحاولون “تحنيط” السُّنَّة وإبعادها عن الاستقلال بالتشريع الإسلامي حتى يقصوا منه جناحه الثاني، ففي حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: إنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ خطبَ النَّاسَ في حَجَّةِ الوداعِ فقالَ: “إنَّ الشيطانَ قد يَئِسَ أن يُعبَدَ بأرضِكم، ولكن رضِيَ أن يُطاعَ فيما سِوى ذلك مما تُحاقِرون من أعمالِكم، فاحْذَروا، إني قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتُم به فلن تَضِلُّوا أبدًا، كتابَ اللهِ، وسُنَّةَ نبيِّه”(1).
ثانياً: من البديهيات أن التشريع الإسلامي حوى كثيراً من الأحكام التي تستند مباشرة على السُّنَّة النبوية، أما القرآن الكريم فسكت عنها تفصيلاً وإن لم تخل “كلياته” من الإشارة إليها إجمالاً، وهذه هي عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة من السلف والخلف، وإن جحد ذلك الجاحدون، أو جهله الجاهلون.
أحكام ثبتت بالسُّنَّة فقط
والأحكام المتعلقة بأفعال المكلفين، التي وردت عن طريق السُّنَّة أكثر من أن تُحصى، ومنها على سبيل المثال:
– زكاة الفطر، وما يتعلق بها من أحكام، لم يكن لها دليل إيجاب إلا ما ورد في السُّنَّة، وكذلك الأنواع التي تُخرج منها.
– تحريم الجمع بين البنت وعمتها أو خالتها في عصمة رجل واحد في وقت واحد، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة التشريعية في منع هذا الجمع، ولم يرد في القرآن الكريم إلا تحريم هذا الجمع بين الأختين فحسب، عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “لا تُنكَحُ المرأةُ على عَمَّتِها، ولا على خالتِها”(2).
– أضافت السُّنَّة إلى المُحَرَم نكاحهن من “القريبات” عن طريق العلاقة النسبية، ما ماثل تلك العلاقة من الرضاع، فقال صلى الله عليه وسلم: “يحرم من الرضاع ما حرم من النسب”(3).
والذي ورد تحريمه من الرضاع في القرآن هو: الأمهات من الرضاعة، والأخوات من الرضاعة، قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) (النساء: 23).
– أضافت السُّنَّة إلى المُحَرَم أكله في القرآن الكريم من الميتة ولحم الخنزير والدم المسفوح…، تحريم أكل كل ذي مخلب من الطير، وكل ذي ناب من السباع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كُلُّ ذي نابٍ مِنَ السِّباعِ حَرامٌ”(4)، وأكل لحوم الحمر الأهلية، وهذه لم يرد تحريمها في القرآن منصوصاً عليه مفصلاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو ثَعلَبةَ الخُشَنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه حيث قال: “حَرَّم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لُحومَ الحُمُرِ الأهليَّةِ”(5).
– استقلت السُّنَّة بتقرير “الشُّفْعَةَ” للجار، وكونه أحق من غيره بما جاوره من مملوكات عقارية لجاره إذا زهد فيها وعرضها للبيع، ولا نجد في القرآن إلا الأمر والترغيب في الإحسان إلى الجار، عن جابر رضي الله عنه: “جَعَلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الشُّفْعَةَ في كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وقَعَتِ الحُدُودُ، وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فلا شُفْعَةَ”(6).
– القرآن الكريم حرم أكل الميتة على الإطلاق، وورد في السُّنَّة استثناء ميتة البحر، فهي حلال، وعليه العمل حتى اليوم، والحديث رواه أبو هريرة حيث قال: سألَ رجلٌ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال يا رسولَ اللهِ إنَّا نركبُ البحرَ ونحملُ معَنا القليلَ مِنَ الماءِ فإنْ توضأْنا بِهِ عطِشْنا أفنتوضأُ بماءِ البحرِ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: “هوَ الطهورُ ماؤُهُ الحلُّ ميتتُهُ”(7).
– بينت السُّنَّة ميراث ما زاد على الاثنتين من البنات في قوله تعالى: (فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) (النساء: 11) وسكت القرآن عن ميراث البنتين، فبينت السُّنَّة أن لهما الثلثين إذا لم يكن لهما معصب.
فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن امرأةُ سعدِ بنِ أبي الرَّبيعِ جاءت بابنتيْها من سعد إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وسلم فقالت يا رسولَ اللَّهِ هاتانِ ابنتا سعدِ بنِ الرَّبيعِ قُتِلَ أبوهما معَكَ يومَ أحدٍ شَهيدًا وإنَّ عمَّهما أخذَ مالَهما فلم يدَع لَهما مالاً ولاَ تُنْكحانِ إلاَّ ولَهما مالٌ، قالَ يقضي اللَّهُ في ذلِكَ فنزلت آيةُ الميراثِ، فبعثَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وسلم إلى عمِّهما فقالَ أعطِ ابنتي سعدٍ الثُّلثينِ وأعطِ أمَّهما الثُّمُنَ وما بقي فَهوَ لَكَ”.
– لم يرد في القرآن أن حكم الجنين الذي يوجد في بطن أمه ميتاً بعد ذبحها شرعاً، هل يحرم أكله لأنه ميت؟ فبينت السُّنَّة أن ذكاة أمه ذكاة له فيجوز أكله، قال صلى الله عليه وسلم: “ذكاة الجنين ذكاة أمه”(8).
هذا غيض من فيض من الأحكام المتعلقة بأعمال المكلفين استقلت السُّنَّة فيها بالتشريع، ومعنى استقلال السُّنَّة بالتشريع أنها كانت دليل الحكم وأمارته، لا أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المشرع من غير إذن من الله فصاحب التشريع هو الله تعالى سواء كان دليل الحكم هو القرآن أو الحديث النبوي، لكن منكري السُّنَّة يتعامون عن كل هذا مع وضوحه، ولا جرم فإن الغاية عندهم تبرر الوسيلة، (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال: 30)(9).
______________________________
(1) الترغيب والترهيب – تحت رقم: 1/61 – خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما، وله أصل في الصحيح – صححه الألباني.
(2) أخرجه البخاري (5109)، ومسلم (1408) واللفظ له.
(3) رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها – تحت رقم: 1445
(4) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه تحت رقم 1933.
(5) أخرجه البخاري (5527)، ومسلم (1936).
(6) رواه البخاري – تحت رقم 2213 – وكذلك رواه أحمد.
(7) أخرجه أبو داود (83)، وابن ماجه (386)، وأحمد (8720) باختلاف يسير، والترمذي (69)، والنسائي (59) واللفظ لهما.
(8) أخرجه أبو داود (2828)، والدارمي (1979)، وابن الجعد في (مسنده) (2653).
(9) أصل هذه الشبهات من كتاب: “هذا بيان للناس – الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية” – د. عبد العظيم المطعني – مكتبة وهبة – طبعة 1420هـ – 1999م.