حين أعلن “نيتشه” (1845-1900م) فلسفته بمصطلح “موت الإله”، واستبدال الإنسان الأعلى به، تلقفت أوروبا الفكرة وكأنها كانت تنتظر من يقولها.
كانت البيئة الاجتماعية الأوروبية مهيأة لتبني فكرة “موت الإله”؛ فقد ظهرت الفكرة في الوقت الذي وصلت فيه أوروبا لنهاية الشوط في فصل الكنيسة عن الدولة والتخلص من هيمنتها، وبرغم أن الرواد الأوائل من المفكرين الأوروبيين الذين دعوا لفصل الكنيسة عن الدولة لم يكن في بالهم فصل الإنسان عن الدين، ظلت الفكرة تتدحرج حتى تأهل جزء مُعتَبَر من المجتمع لفكرة فصل الإنسان عن الدين.
ومن ناحية أخرى كانت فكرة “الإنسان الأعلى” متغلغلة في عمق الثقافة الأوروبية منذ عهد هيمنة الرومان، وفلسفة اليونان، على اعتبار أن الإنسان الأوروبي هو الجنس الأعلى، والمؤهل للتحكم والسيطرة على باقي الأجناس، وكانت أوروبا عمليا في ذلك الوقت مهيمنة بالاحتلال المباشر على معظم أقطار الأرض.
“نيتشه” الذي روج لفكرة “موت الإله”، كان على تمام الإيمان بحاجة البشر لوجود إله، وقادتهُ فلسفته إلى الوصول لأن يكون الإنسان بديلا عن الإله، ولكن أي إنسان؟
إنه “الإنسان الأعلى – السوبر مان”، هذا الإنسان هو الفكرة الفلسفية لما ادعاه “داروين” من نظرية علمية عن التطور؛ فإن كان إنسان “داروين” حيوانا أعلى نتج عن تطور طبيعي من أصل حيواني للإنسان؛ فإن النسخة الفلسفية لذلك الإنسان كانت من صنع “نيتشه”؛ فالبقاء للإنسان الأصلح -بمعنى الأقوى ماديا في نظرية “داروين”، والأصلح والأقوى بحسب فلسفة “نيتشه”- هو الإنسان المتخلي عن الغيبيات والأخلاق الدينية التي تدعو إلى الرحمة والشفقة، والمتحلي بالقسوة للتغلب في صراع الحياة.
ومع تنامي النزعة القومية والعنصرية داخل أوروبا تلقفت النازية فكرة “نيتشه” عن الإنسان الأعلى، وتبنتها كفلسفة داعمة لعلو الجنس الآري وأحقيته في العلو على سائر الأجناس، وتحت مظلة فلسفة الإنسان الأعلى سعت السلطة النازية لتطهير المجتمع الألماني من الدخلاء على الجنس الآري ومنهم اليهود والغجر وغيرهم، وكذلك وضعت خطة القتل الرحيم للتخلص من الضعفاء والمرضى النفسيين.
وتم طبع مئة وخمسين ألف نسخة من كتاب “هكذا تكلم زرادشت” في طبعة جيب خاصة للجنود الألمان في الحرب العالمية الأولى لتصاحبهم في المعركة.
هل كان نيتشه” يقصد برؤاه الفلسفية ما طبَّقته البيئة الحاضنة لأفكاره؟
“نيتشه” الذي أعلن موت الإله، كان مسكونا بفكرة الإله، وقد استنتجت صديقته “لو سالومي” بعد ثلاثة أسابيع قضياها في مدينة “تاتنبرغ” أنهما في الأساس لم يتحدثا إلا عن الرب، وخلصت إلى أن “نيتشه” كان متدينا كثيرا بالنسبة لشخص بلا إله، وكان الألم الذي يعانيه بسبب فقدان الإله هو المحرك والدافع لفلسفته؛ فتنميته الفكرية كلها مستمدة من فقدانه الإيمان ومن عواطفه التي شهدت موت الإله، وأصبح مهووسا باحتمالية العثور على بديل لهذا الإله.
“نيتشه” الذي ألف كتابا بعنوان “عدو المسيح” كان يقدر ويحترم ويمدح المسيح الإنسان.
و”نيتشه” الذي دعا للقوة، وسخر من أخلاق الشفقة والرحمة التي تدعو لها المسيحية وسائر الأديان، وكان يعتَبِر التخلي عن مشاعر الشفقة والرحمة من قِيَم النبلاء، كان آخر مشهد في حياته قبل جنونه؛ انفعاله لرؤية الخيول الكبيرة السن المتعبة من ثقل الأحمال التي تجرها وسوء معاملة أصحابها، وبلغت ذروة انفعاله حين رأى أحد الخيول يتعرض للضرب من صاحبه، فتملكته أخلاق الرحمة والشفقة، وانكفأ على الحصان واحتضن رقبته ليحميه من الضرب، ثم انخرط في موجة بكاء سقط على إثرها مغشيا عليه، واستمرت حياته بعدها أحد عشر عاما فاقدا لعقله متنقلا بين المصحات العقلية أو محبوسا داخل غرفة تحت رعاية أخته وأمه.
كم هو مغرور ذلك الإنسان الذي يعاند روحه التي تسكن داخله ويمنع أشواقها للتحليق في السماء.
هل يتحمل “نيتشه” مسئولية الانحراف بأفكاره عن مسارها؟
نعم يتحمل ذلك لأنه مسئول عن الأفكار التي روجها والمصطلحات التي نحتها وتركها دون تفسير.
“نيتشه”، فضلا عن كونه فيلسوفا، كان في الأصل أديبا ومتخصصا في علم اللغة، وطغت لغته الأدبية على إنتاجه الفكري وأضفت على أفكاره غموضا، فقد اعتمد أسلوب الشذرات والإشارات للتعبير عن أفكاره، وهذه إشكالية كبيرة ساعدت في انحراف البعض بأفكار “نيتشه” عن مقاصده.
أثناء دراستي لإشكالية الأفكار وبيئتها الحاضنة وتلقيها للأفكار بالقبول من ناحية، والانحراف بها عن مقاصدها من ناحية أخرى، واتخاذي لـ”نيتشه” نموذجا، كان المفكر الإسلامي الأستاذ “سيد قطب” حاضرا في ذهني كنموذج مثالي مشابه.