هناك عداء واضح للأسرة داخل تيارات في الحركة النسوية؛ إذ يُنظر للأسرة كمكان يتجلى فيه التمايز بين أدوار النساء والرجال في الحياة، ومكان تمارس فيه المرأة وظيفتها الطبيعية في رعاية أطفالها وزوجها، ومن ثم سعت تلك التيارات لتفكيك الأسرة، من خلال معاداة الرجل، ومحاربة الزواج، والترحيب بالشذوذ، وكراهية الأمومة والأطفال، فقد رأت النسوية في الأسرة هيكلاً للاستغلال يجب تحطيمه، ولن تتمكن من ذلك إلا بمكافحة الزواج، ولن يتأتى ذلك إلا بتجفيف منابع الأمومة في فطرة الأنثى.
الصراع بديلاً للمودة
تستمد النسوية المعادية للأسرة جذورها من الماركسية القائمة على مفهوم الصراع الذي يحرك التاريخ، لكنها حولت الصراع من كونه طبقياً، ليصبح بين الرجل والمرأة، بزعم ضرورة تحقيق المرأة لاستقلالها الاقتصادي والجنسي عن الرجل، من خلال العمل، ومن خلال إيجاد بدائل للجنس الآمن بعيداً عن الحمل، وعن الممارسة الفطرية، وتشجيع الممارسات الشاذة التي تكتفي فيها النساء بالنساء.
تعادي تلك النسوية الأسرة؛ لأنها ترى أن الأسرة الصغيرة هي التي تُكسب الطفل الصفات والأدوار الاجتماعية في الحياة، كما تكسب الفرد السمات الشخصية المميزة للرجل والمرأة، فتجعل المجال الأساسي لنشاط الرجل هو الكسب خارج المنزل، أما المرأة فدورها الرئيس داخل المنزل رعاية لأسرتها وأطفالها؛ لذا تظن النسوية الراديكالية أن تفكيك الأسرة سيقود إلى تفكيك تلك الأدوار والوظائف، وبالتالي لن تستطيع التنشئة داخل الأسرة تعزيز الفطرة المركوزة في الإنسان.
لم تُخف رائدات ذلك التيار كراهية الأسرة، فترى كيت ميليت، أحد أقطاب النسوية التي رحلت عام 2017، أن الأمومة عائق أمام حرية الأنثى، وتقول: طالما أن كل أنثى، ببساطة بحكم تشريحها، ملزمة، أو حتى مجبرة، على أن تكون الراعية الوحيدة أو الأساسية للطفولة، فهي ممنوعة من أن تكون إنسانًا حرًا.
أما بيتي فريدان، فتشبه وجود المرأة داخل البيت مع أسرتها بوجودها في معسكرات الاعتقال.
وحسمت ليندا جوردون الموقف بقولها: يجب تدمير الأسرة، لأن تفكيك العائلات هو عملية ثورية.
وهكذا تمضي النسويات في مقولاتهن ومواقفهن نحو تدمير تام للأسرة تحت دعاوى أنها أماكن تتعرض فيها المرأة للاستغلال؛ بل إن بعضهن اعتبرن دور المرأة في البيت مهنة غير مشروعة، وكان السبيل لذلك هو وضع نهاية لمفهوم الزواج، واعتباره تعبيراً عن عصر قد انتهى، وتشجيع عيش المرأة بشكل منفرد بعيداً عن الرجل.
وتشير إحصاءات أمريكية إلى أن هناك ما يقرب من 9 ملايين شاذ، أكثر من نصفهم سحاقيات، وهو عدد مخيف وآخذ في التزايد، بسبب تفشي مفهوم البحث عن «الجنس الآمن» (Safe sex) الذي لا ينتج عنه أطفال.
بدائل التكنولوجيا
سعت النسوية الراديكالية إلى تحرير المرأة من ضغوط الجسد اعتماداً على معطيات العلم والتكنولوجيا الحديثة، ظناً أن ذلك سيقمع فطرة المرأة وحاجتها إلى الزوج والطفل، فرأوا في التكنولوجيا قدرة على تغيير مصير المرأة، وإيجاد بدائل لقمع البيولوجيا، فعلى سبيل المثال، مع ظهور الدعوات للتحرر الجنسي، كانت العقبة هي الحمل، ومع ابتكار أدوية منع الحمل عام 1960، رأت النسوية أن مرحلة «الجنس الآمن» للمرأة شقت طريقها للوجود، لكن تلك الأقراص لم تكن كافية، ومع التطور الطبي ومحاولة شرعنة الإجهاض، وتنظيف آثار الانفلات، سعت النسوية للاعتراف به قانونياً؛ أي خلق تشريعات للإقرار بأن تقتل الأم جنينها، ووصل الأمر إلى انتزاع الرحم من الأنثى نهائياً، وتشجيع التلقيح الصناعي كنوع من التعويض عن الأمومة، وصُك شعار «جنس بلا حمل، وأطفال بلا رجل»! وربما هذا الاتجاه يرتبط بمفهوم الحداثة الراغبة في إيجاد الإنسان الذي يملك مصيره، ويتحكم فيه، بعيداً عن أي قيم عليا متجاوزه للإنسان؛ لذا ظنت النسوية أن التكنولوجيا مكَّنت المرأة من طمس فطرتها، وفتحت لها الأفق لإشباع الطموح والغرائز بلا مسؤولية.
الشذوذ كان البديل الذي اقترحته ومارسته الكثير من النسويات الراديكاليات لمواجهة تجذر الأسرة في الوجدان الإنساني، فسعت لإيجاد بدائل للجنس بعيداً عن العلاقة الفطرية بين الرجل والمرأة، تحت ستار أن الجنس مبنى اجتماعي، ورأين أن العيش مع الرجل هو «نوم مع العدو»، وطالبن بإنشاء «كوميونات» نسائية لا يشارك فيها الرجال.
العداء للأمومة
يعتقد هذا التيار النسوي أن الأمومة خطر على الحركة النسوية، ويرين أن الأمومة يمكن أن تنهب ذات الأنثى بطريقة لا يمكن إصلاحها، فالأمومة بما هي فطرة، لن تستطيع المرأة أن تقاومها إلا بتكلفة كبيرة وصعوبة بالغة؛ لذا كان الحديث المتكرر عن أن الأمومة عبء على المرأة يرسخ دورها الاجتماعي في مؤسسة الأسرة، وظهر العديد من الكتب والمقالات التي تحرض على نبذ الأمومة، فمثلاً الممثلة جين كيركمان أصدرت كتاباً بعنوان «حياة سعيدة بدون أطفال»، طالبت بأن يكون مسار عدم إنجاب الأطفال اختيارياً، ويرى هذا التيار أن الأمومة ضد مفهوم الحرية، فتقول إحداهن: إذا كنتِ تقدّرين الحرية قبل كل شيء، فعليكِ رفض الأمومة؛ لأن هذه حالة من الوجود تقيّد حرية المرأة بكل الطرق الممكنة تقريبًا.
والحقيقة أن فطرة الأمومة ما زالت مستعصية على الدعاية النسوية، فالأم ما تزال المثال الأعلى للتضحية، ورغم أن الفضاء الرقمي يسعى لتضخيم مسار «نساء بلا أطفال»، فإن الأمومة ما تزال مستعصية على تلك الدعاية، في دراسة استقصائية نشرها معهد «بيو» لدراسات الدين، أكدت أن الأمهات غير المتزوجات والعاملات هن أقل سعادة من الأمهات المتزوجات وغير العاملات.
وقد تعرضت هذه الرؤية المضادة للفطرة للنقد، إذ رأت أصوات نسائية قوية غربية أن وصف الأمهات اللاتي يبقين في المنزل لرعاية أولادهن بأنهن غير أكفاء، هو نوع من الظلم، وأن قصر تعليم المرأة نحو هدف التقدم الوظيفي وتعظيم الدخل المادي ليس فقط هو المطلوب، ولكن هناك تعليم الأطفال الصغار وتنشئتهم، وذكرت أكثر من كاتبة أن العائلات المستقرة مع أمهات متعلمات ربات منزل من شأنه أن يحل عدداً كبيراً من مشكلاتنا الاجتماعية الحالية، يجب أن نتعلم كيف ندافع ونمدح النساء اللائي يبقين في المنزل، الأمومة عمل نبيل.
لكن العمق الفلسفي وراء معاداة الأمومة هو أن الأمومة تهدد منطق الفردية، فالأمومة تخلق نوعاً من الالتزام الإنساني من الأم تجاه أطفالها لا يمكن تحطيمه أو إلغاؤه، فالأم والطفل، سواء كان جنيناً أو رضيعاً أو حتى صغيراً، لا يتمتعان باستقلالية عن بعضهما بعضاً، إذ تظل الأم وطفلها وحدة واحدة، وتلك نواة قوية لاستمرار مفهوم الأسر، وغالبية البشر ينزعون إلى الفطرة في التزاوج الطبيعي بين رجل وامرأة، وإلى إنجاب الأطفال، ورعايتهم في أسرة، ووضع متطلبات الأسرة فوق كل التزام اجتماعي آخر.