لسنوات خلت، أصبحت تلك الجملة «للي قادرة على التحدي» التي هي اسم لأغنية تتخذها من يُطلق عليهن «النسويات» شعاراً يطلقنه على من أردن من شخصيات نسوية يحاولن تصديرهن كرموز مجتمعية لمسخ هويتنا العربية والإسلامية.
يتم ذلك بالرغم من التناقض بين ما تروّج له تلك الشخصيات في غالب الأحيان من تنكّر لقيمنا ومعتقداتنا، ومن أفكار تزيد من حالات الاستقطاب المجتمعي وتهدر طاقته في معارك وهمية بين مكوناته، أو في أقل تقدير تصرف الطاقات في المعارك التي ليست ذات أولوية، مقارنة بمعارك الأمَّة الأولى في مسيرتها نحو النهوض.
إلا أننا نرفع هذا الشعار اليوم على سيدة تستحق أن يُشار إليها وأن تصبح قدوة لبناتنا.
السيدة التي أتحدث عنها هي سيدة عربية أردنية، لو كان الأمر بيدي لفرضت تدريس مواقفها في المناهج الدراسية لأبنائنا وبناتنا؛ كي يتعرفوا على القدوات الحقيقية بعيداً عما يُفرض عليهم لأغراض غير شريفة.
حديثنا عن د. ريما خلف، بعدما تخرجت في الجامعة الأمريكية ببيروت وحصلت على دراسات عليا بالاقتصاد من جامعات الغرب، عادت إلى بلدها الأردن لتشغل عدة مناصب وزارية، قبل أن تبدأ لاحقاً مسيرتها في شغل مناصب بهيئات تابعة للأمم المتحدة.
فكان من ضمن المناصب التي تقلدتها: مساعدة للأمين العام للأمم المتحدة، ومديرة إقليمية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بين عامي 2000 و2006، وأطلقت -وهي تتولى هذا المنصب- مشاريع لتعزيز الحكم الرشيد وحقوق الإنسان والتنمية البشرية في البلدان العربية.
وفي هذه الفترة، كان لها دور بارز في إصدار تقرير دوري عن التنمية البشرية في العالم العربي، حيث كان هذا التقرير في حينه محل اهتمام وتقدير من الساحة الثقافية العربية.
وقامت جامعة الدول العربية، عام 2005، بتكريمها في مقرها بالقاهرة، وعلى هامش تلك الزيارة استضافتها نقابة أطباء مصر في «دار الحكمة»، وتم تكريمهما كرائدة عربية تقلدت مثل هذه المناصب الأممية.
وما زلت أذكر كلمتها وهي تبشر بحتمية زوال الأنظمة المستبدة، ولا مفر من أن تتمتع الشعوب بكامل حقوقها وحرياتها، مستشهدة في ذلك بما جرى من تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا.
لاحقاً، غاب عني متابعة نشاط خلف لتقصير مني، حتى استيقظتُ ذات يوم في العام 2017 على خبر استقالتها من منصب الأمينة التنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) على خلفية سحب تقرير دولي يتهم «إسرائيل» بممارسة اضطهاد للشعب الفلسطيني.
بعدما أنهت خلف تقريرها الذي انتهي بأن نظام الاحتلال «الإسرائيلي» نظام فصل عنصري، وأنه لا حل للقضية الفلسطينية إلا بعد تفكيك هذا النظام العنصري، أوصت بعودة عمل لجان مقاومة الفصل العنصري بأروقة الأمم المتحدة لتولي هذه المهمة مثلما كان الأمر مع نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا.
لم يكن سحب تقرير خلف مفاجأة لها وهي تعلم، وفق ما أوردته في نص رسالة استقالتها التي وجهتها للأمين العام للأمم المتحدة، مدى النفوذ الذي تتمتع به «إسرائيل» بصورة مباشرة أو غير مباشرة عبر أمريكا؛ لذلك قررت تقديم استقالتها وهي تعلم بحكم خبرتها أن الاستمرار في التمتع بمزيد من الصلاحيات والمناصب الأممية لا يمر إلا من بوابة الرضا الصهيوأمريكي، لكنها اختارت الانحياز للحق.
أكتب تلك الكلمات اليوم في محاولة بما هو متاح، حتى لا يطوي النسيان هذا الموقف لهذه السيدة، وحتى لا تتوه المعالم في ظل تسليط أضواء الكاميرات على فنانات وسيدات مجتمع هن صور مستنسخة من حضارة وقيم ومواقف لا تمثل أمتنا ويراد لهن أن يكن القدوة.
إن ريما خلف لا ينبغي لها أن تكون مثالاً وقدوة لفتياتنا فقط، بل للجميع؛ رجالاً ونساء، ممن ينتمي بحق لهذه الأمة.
لقد أقامت خلف الحجة علينا حين صدعت بقول الحق، فأثبتت لنا بالمثال أن كلمة الحق ممكنة في كل مكان وزمان، فقط إذا استمع الإنسان لصوت ضميره وانصاع له.
وفي الوقت نفسه، أبانت خلف عن زيف شعارات النسوية، التي تريد أن تُجْهز على كل جميل في تراثنا، وتخرج بالمرأة عن مضمارها الذي خلقها الله تعالى عليه، الذي من خلاله تستطيع أن تقدم لأمتها ولدينها ولوطنها الكثير والكثير.