عندما أصيب زوجها، أطال الله عمره ومتعه بالصحّة، بالمرض، لم تتخل عنه ووقفت معه في محنته، وكانت تقول له: «لا تحزن يا عصام، إنك إن عجزت عن السير سرت بأقدامنا، وإن عجزت عن الكتابة كتبت بأيدينا، تابع طريقك الإسلامي المستقل المميز الذي شكلته وآمنت به، فنحن معك على الدوام، نأكل معك -إن اضطررنا- الخبز اليابس، وننام معك تحت خيمة من الخيام».
يقول الشاعر والمفكر الصابر المرابط عصام العطار، على «تويتر»: في يوم 17 مارس 1981 اقتَحَمَ قَتَلَةُ النِّظام السوريّ بيتَنا في آخِن وقتلوا زوجَتي بنان علي الطنطاوي بخمسِ رَصاصَات؛ رَصاصَتين في الجَبين، ورَصاصَتين في الصَّدر، ورَصاصَة تحت الإبط.
طرق القاتل النذل باب شقة جارتها الألمانية، وهددها بالمسدس، لكي تطرق باب شقة عصام العطار، فنفذت الجارة الألمانية الأمر تحت تهديد السلاح، فتحت الشهيدة بإذن الله الباب عندما اطمأنت للطارق، فعاجلها المجرم برصاصات الغدر.
اغتيلت الأديبة بنان، ابنة الداعية الفقيه الأديب علي الطنطاوي، كانت الشهيدة، بإذن الله، أديبة مثقفة، تتقن فن القول، نشرت العديد من المقالات في الصحف والمجلات الإسلاميّة، وكانت تؤمن بأنّ للمرأة دوراً اجتماعياً وثقافياً لا يقل أهمية عن دور الرجل، ومهمة دعوية مؤتمنة عليها، إلى جانب دورها الطبيعي في رعاية الأسرة وتربية الأجيال، وصدر لها كتاب «دور المرأة المسلمة».
يَا أَسَفَى على بنان!
يقول الشيخ علي الطنطاوي، رحمه الله، وهو يتذكر وفاة بنان: إن كل أب يحب أولاده، ولكن ما رأيت، لا والله ما رأيت من يحب بناته مثل حبي بناتي.. ما صدّقت إلى الآن وقد مر على استشهادها أربع سنوات ونصف السنة وأنا لا أصدق بعقلي الباطن أنها ماتت، إنني أغفل أحياناً فأظن إن رن جرس الهاتف، أنها ستعلمني على عادتها بأنها بخير لأطمئن عليها، تكلمني مستعجلة، ترصّف ألفاظها رصفاً، مستعجلة دائماً كأنها تحس أن الردى لن يبطئ عنها، وأن هذا المجرم، هذا النذل.. هذا.. يا أسفى!
ثم يضيف الأب المكلوم: اللغة العربية على سعتها تضيق باللفظ الذي يطلق على مثله، ولكن هذه كلها لا تصل في الهبوط إلى حيث نزل هذا الذي هدّد الجارة (الألمانيّة) بالمسدس حتى طرقت عليها الباب لتطمئن فتفتح لها، ثم اقتحم عليها، على امرأة وحيدة في دارها فضربها ضرب الجبان، والجبان إذا ضرب أوجع، أطلق عليها خمس رصاصات تلقتها في صدرها وفي وجهها، ما هربت حتى تقع في ظهرها كأن فيها بقية من أعراق أجدادها.
ثمّ داس القاتل بقدميه النجستين عليها ليتوثّق من موتها كما أوصاه من بعث به لاغتيالها، دعس عليها برجليه ليتأكد من نجاح مهمته، قطع الله يديه ورجليه، آمين، لا بل ادعه وأدع من بعث به لله، لعذابه، لانتقامه، ولعذاب الآخرة أشدّ من كل عذاب يخطر على قلوب البشر.
الكيد يرصدنا في كل منعطف
كان زوجها الشهيد الحي الذي فدته بروحها، من أشد الناس حزناً عليها، فرثاها بقصائد باكية رقيقة، جمعت في ديوان «رحيل»، ومنه هذه الأبيات:
بنان يا جبهةَ الإسلام دامية ما زال جرحك في قلبي نزيفَ دمٍ
بنان يا صورة الإخلاص رائعةً ويا منال الفِدى والنبل والكرم
عشنا شريدين عن أهلٍ وعن وطنٍ ملاحماً من صراع النور والقيم
الكيد يرصدنا في كل منعطف والموت يرقبنا في كل مقتحم
مضت سنوات طوال وما زالت ذكرى اغتيال الشهيدة بنان حية في ضمائر الأحرار؛ لأنّ الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون.