تمثل الشائعات المتعلقة بالمسائل الأخلاقية جانباً كبيراً من قضايا كل مجتمع، وتختلف النتائج المترتبة عليها حسب تعاطي المسئولين معها، سواء كانوا مسؤولين إداريين كالحاكم ونظامه، أو مسؤولين اعتباريين كالعلماء ومشايخ المجتمع وموجهيه ومعلميه.
وتلقى مثل تلك القضايا اهتماماً خاصاً من العوام وتنتشر انتشاراً واسعاً دون التبين أو التحقق، خاصة إذا كانت تتعلق بفرد ذي حيثية، أو بمؤسسة ذات مسؤولية، تعرقل أداءها أحياناً، وتتسبب في وقفها تماماً أحيانا أخرى حسب قوة الشائعة، وقوة الفرد أو المؤسسة في ذات الوقت.
وبما أن الإسلام لم يترك المسائل التي تؤثر في بنية المجتمع المسلم وتماسكه دون معالجة عملية جذرية، فقد تعرض المجتمع الإسلامي الوليد في المدينة المنورة لهزة عنيفة إثر أعنف شائعة قد تتعرض لها مؤسسة الحكم، أو المسؤول الروحي والمربي والقدوة بالدولة الناشئة، حيث نجح أحد أعمدة النفاق في المدينة في صنع حالة بلبلة داخل الصف، فسقط فيها من سقط من المسلمين الذين لا نستطيع أن ننفي عنهم صفة الإيمان، منهم قراء لكتاب الله، وكلهم من صحابة النبي صلي الله عليه وسلم، مما يوحي بقوة تأثير الشائعة رغم أن دلائلها واهية.
حادثة الإفك
وكانت حادثة الإفك بالمدينة هي الدرس العملي الأول للجماعة المسلمة رغم ما تسبب فيه من آلام كبيرة لخير خلق الله وبيت الصديق، الذي كان بمثابة الوزير الأول للدولة، إلا أنه كان لازماً لنخرج منه بعدة دروس ومبادئ للبناء المجتمعي السليم.
فقد مثل النبي صلي الله عليه وسلم الحاكم السياسي والقائد العام للدولة المسلمة في المدينة، كانت دولة مكتملة الأركان، كان هناك منافقون، وكان هناك حديثو عهد بالإسلام ما زالت أواصر الجاهلية تكبل بعض سلوكياتهم، وكان هناك مسلمون صادقو الإسلام غير أنهم كغيرهم من ضعاف الإيمان، اكتفوا بتمرير الحديث على أسماعهم دون التعقل أو تعقله وتمريره على وجدانهم.
المعالجة القرآنية للشائعات الأخلاقية
لا يخلو مجتمع من منافقين، أو من مرضى القلوب وكارهي الفضيلة، لقد أسماه الله عز وجل «إفكاً»؛ أي كذب وبهتان كبير، وهي تبرئة بينة للسيدة عائشة رضي الله عنها، وسبق براءتها بيان حد القذف، وهو يقترب لحد كبير من حد الفاحشة ذاتها.
فخطورة خوض المجتمع في أعراض الناس دون بيّنة يعادل في الجرم من اقترفه، فيقول سبحانه في سورة «النور»: (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ) (النور: 11)، ثم يبين التصرف الصحيح لأفراد المجتمع المسلم تجاه تلك المسألة فيقول جل وعلا: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ {12} لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ {13} وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور)، فالمسلم أخو المسلم، أو هو نفسه، وما تظنه عن نفسك هو ما يجب أن تظنه فيه.
المعالجة النبوية لحادثة الإفك
ظل نبي الإسلام شهراً كاملاً يعاني حديث المسلمين ووقوعهم في عرضه الشريف، وعرض الصديق وابنته حبيبة رسول الله، غير أنه عليه الصلاة والسلام لم يواجه الأمر بالغضب، وإنما بالتبين واستشارة المقربين منه، واجتمع بالمسلمين، فدعا علي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت عائشة: فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم، فقال أسامة: هم أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيراً، وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تخبرك، قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال لها: «أي بريرة، هل رأيت فيها شيئاً يريبك»، فقالت: لا والذي بعثك بالحق نبياً، إن رأيت منها أمراً أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله، قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، واستعذر من عبدالله بن أبي بن سلول، فقال وهو على المنبر: «من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي»، قالت: فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة رضي الله عنه وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً، ولكن أخذته الحمية، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على ذلك.
فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان –الأوس والخزرج- حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فلم يزل يحفظهم حتى سكتوا ونزل، وتلك الرواية عن عائشة رضي الله عنها تبين حجم الفتنة التي قد يقع فيها المسلمون إثر مثل تلك الشائعات، وكيف أنها يمكن أن تمزق المجتمع المسلم وتفتته بالرغم من وجود النبي بينهم، حفظ الله بلاد المسلمين وأهلها.
_____________________
(*) كاتبة وباحثة في الشريعة الإسلامية.