كتبه: أد. حمزة عواد
في أعماق المغرب الإسلامي في الجنوب الغربي من الجزائر وكسائر بلاد الإسلام شرقا وغربا يقف المرء على عناية بالغة بتعليم القرآن الكريم، تشعره أن هذا الحبل الممدود لن يقطع ما بقي في هؤلاء عرق ينبض.
حين أتحدث هنا أريد أن أجلي صفحة من صفحات الأمة الإسلامية في تعاملها وعنايتها بكتاب ربها، من حيث تعليمه ونشره والاهتمام بتوريثه للأجيال…
سوف أنفض غبار سنين مضت من عمري كنت أتوجه فيها إلى (المَحْضَرَة) وهي الكُتّاب عندنا، وقد نسميها أيضا (الطالب) بلغة تلك المنطقة، فكنت أرتاد الطالب يوميا صباحا ومساء من أجل أن أتلقن القرآن الكريم.
هو عهد باق في الناس جميعا، كأنما أخذ عليهم ميثاقه في أرحام أمهاتهم، لا يبلغ عندهم الصبي مبلغ الوعي حتى يلحقوه بالكتاب، يتعلم مبادئ الحروف وشيئا من القرآن.
ومعلمو القرآن أيضا، أكثرهم يعمل حسبة، لا يتقاضى أجرا، سوى ما يجود عليه به أولياء الصبيان، وهو على شحه مبارك ببركة القرآن العظيم.
المكان والمنطقة هي مدينة البيّض بياء مشددة مفتوحة، من مدن الغرب الجزائري، حيث الشتاء البارد القارس، بكل أحواله وأوحاله، الثلج والمطر والجليد والوحل، والصيف الحار بشمسه المحرقة والعجاج الدائم.
الزمن ثمانينات القرن العشرين، حيث نتج جيل من المسلمين لم يدرك وجود الاستعمار لكنه أدرك ويلاته وآثاره.
في كل صباح على الرابعة توقظ الأمهات أطفالهن على مضض منهم، يتوجهون إلى الجامع أو الكتاب، ليحفظوا ما قد كلفوا به يوم أمس.
يتجهون بعد الوصول إلى الصناديق التي حوت ألواح الجميع، فيأخذ كل منهم لوحه المكتوب عليه محفوظه من الجهتين.
جزء جديد وآخر أقدم منه، فيشرع في قراءة الجديد وتكراره لأجل ترسيخه في ذاكرته، أو ينتظر إلى أن يحضر المعلم ليملي عليه ما يكتبه إن لم يكن قد كتب الجديد.
ويستمر ذلك التكرار والمراجعة طيلة الصباح، لا يقطعها إلا دعوة من المعلم إلى مشاركته فطوره الصباحي إن أحضر أحدهم هذا الفطور، أو لهوٌ مع بعض الصبيان، ويا ويل من اكتشف المعلم لهوه، فليس يحجزه عن العقاب أحد.
والمعلم يعاقب لأدنى شبهة، بل قد يعاقب الجميع بجريرة الواحد، وأحيانا يضرب هباء كل من تناوله سوطه لا لشيء… فقط من أجل أن يدوي صوت القرآن في أذنيه دون انقطاع، لأنها العلامة الوحيدة الدالة على اجتهاد الطلاب.
وعلى الساعة الحادية عشر يصرف الصبيان إلى بيوتهم لينالوا حظهم من الراحة والطعام، ثم يعودون أدراجهم إلى كتابهم بعد الظهر، بعدما يأخذ شيخهم قيلولة ناعمة، وعلى النمط ذاته يشرعون في قراءة الوجه القديم وتكراره هذه المرة، ليعرضوه على الشيخ في آخر الحصة.
وبعد العصر يصطفون للعرض، فمن أجازه الشيخ ضرب على لوحه بالقلم، وإلا ضرب على وجهه بالعصا.
ثم في آخر الأمر يقرأ الجميع مقدارا من القرآن جماعة يختمون به يومهم الدراسي، يكون قائدهم فيه شيخهم، ويعودون إلى بيوتهم لينتظروا يوما جديدا بأعمال مشابهة تماما.
ليس الهدف من هذا التوصيف عرض طريقة التدريس في هذه المنطقة، ولكن لنبين أن هذا المنهج الذي رضيه الناس لأنفسهم ولتعليم صبيانهم أنشأ أجيالا في الجزائر تعرف دينها وقرآنها ولغتها، وبفضله ثبت الناس على مبادئهم رغم كل محاولات الطمس التي تعرضوا لها من خلال الترسانة الإعلامية الغربية لمحو آثار الإسلام في البلاد الإسلامية.
إن العبد الذي يتجلجل القرآن في صدره منذ نعومة أظفاره فيتمثل توحيد الله من خلال قراءة سورة الإخلاص وسورة البينة وأشباههما، ويتمثل جزاء المؤمن في الدار الآخرة من خلال سورة الزلزلة وسور التين، وجزاء المعرض من خلال سورة الماعون وسورة الفيل، وهي السور التي يحفظها جميع صبيان الكتاب، ويتمثل أحكام الله سبحانه من خلال ما يقرأه ويسمعه ممن يقرأ في قراءتهم الجماعية، ومن خلال ما يمارسه من عبادات يلزمه بها معلمه من محافظة على الصلاة وتلقين لأذكار الصباح والمساء والأوراد العامة والخاصة حسب توجه الشيخ الملقن، وغير ذلك من الأعمال، التي على سذاجتها وعفويتها، كانت ولا تزال سببا في انتظام أجيال متعاقبة على الاستقامة وثباتها على الدين.
ولم نر في المجتمع انحرافا ظاهرا للعيان، مع جهل بالدين والشرع، إلا لما ظهر فيه من لا يولي القرآن اهتمامه، ولا يحرص على بذل وقته وماله في تعليمه لصبيانه.
نعم، لم يعم الأمر بعد، لكن النتائج لا تبشر بخير، فعدد هؤلاء صار معتبرا، مما يستدعي استدراكا عاجلا، وإلا فإنه الندم ولات حين مندم.
وهؤلاء إنما دعاهم إلى ترك سنة الآباء اغترارهم بظاهر من الدنيا رأوه، فظنوا على غير هدى أن الاشتغال بالقرآن هو اشتغال عن الدنيا التي أمروا بإعمارها، ونسوا أن القرآن يعمر الدنيا والآخرة،. معا.
إن القرآن ينشئ في المجتمع مواطنا صالحا، ملتزما واجباته ومؤديا الحقوق المفروضة عليه، ذلك لأنه من أول أمره سمع الله يقول فأطاع، فتعود على الانصياع والالتزام للحق، فضلا عن أنه يجد من تناسق بين ما في القرآن والحياة ما يعطيه الخبرة الكافية لتسييرها.
إنني أقول هذا ولست أملك أدلة برهانية على ما أقوله سوى الواقع المشاهد، وذلك لأن التعبير عن هذه الأدلة عسير عسر استشعار معنى البركة التي أودعها الله في القرآن، فنحن نستشعرها دوما ولكننا لا نقدر على وصفها.
ومن ذلك أننا في مدارسنا نجد النخبة النجباء من تلاميذنا في شتى مستويات الدراسة من الابتدائي إلى الجامعي هم أهل القرآن وحفاظه، فإنهم لا يبذلون ما يبذله غيرهم من جهد من أجل تحصيل معالي الرتب، ومع ذلك هم دوما في الصدارة، بخلاف غيرهم فإن ضعف عنايته بالقرآن توجب عليه بذل الجهد الزائد لبلوغ تلك المراتب.
وأقرب مثال نجده أمامنا هم الناجحون الأوائل في شهادة البكالوريا على المستوى الوطني الجزائري في السنوات الأخيرة، حيث صارت النتائج تأخذ صدى إعلاميا خاصة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، إلى درجة أمكن معها الاطلاع على خصوصيات هؤلاء المميزين، فإن جملة كبيرة منهم من حفاظ القرآن الكريم وممن يولي تدينه وعقيدته وشرع ربه العناية الشديدة.
وقد ورثنا من آبائنا كلمة يقولون فيها: “من أراد الدنيا فعليه بالقرآن، ومن أراد الآخرة فعليه بالقرآن، ومن أرادهما معا فعليه بالقرآن”.
وخير منه قول نبينا الحبيب صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إن الله يرفع بهذا القرآن أقواما ويضع به آخرين”.
وتلخيصا لما قلت: فإن العناية بالقرآن تنتج الجيل الصالح النافع لأمته ووطنه ودينه، فاللهم توفيقا وسدادا.
(*) رئيس قسم أصول الدين بجامعة وهران1 الجزائر