يشير مُصطلح الذكاء الاصطناعي إلى تلك الظاهرة التي ترجع إلى خمسينيات القرن الماضي، وهو ذكاء اصطناعي في مقابل الذكاء البشري الطبيعي الذي يحاول أن يحاكيه، هذا الذكاء الاصطناعي يعني إمكان قيام نوع معين من أجهزة الحاسب الآلي بمجموعة من المهام الموكلة إليها بشكل ذاتي، مع إمكان التعلم الآلي من الأخطاء والتجارب وتطوير نفسها تلقائياً بمرور الوقت لتُلبي الاحتياجات المطلوبة منها بدقة وكفاءة وسُرعة تُحاكي بها البشر، بل وتتفوق عليهم.
في عالم اليوم، يشيع استخدام الذكاء الاصطناعي في صور شتى، فمن انتباه الإنسان من نومه وحتى غفوته يحاصره الذكاء الاصطناعي في هاتفه المحمول وحاسبه الآلي ووسائل التواصل الاجتماعي ومُحركات البحث، ومتاجر التسوق الإلكتروني، وتطبيقات الخدمات البنكية، وخرائط الملاحة للطرق وغيرها.
لكن شعوراً أكثر إلحاحاً بالقلق اندفع إلى الساحة بظهور الانطلاقة الجديدة لبرنامج «Chat GPT» مصحوباً بتساؤلات متنوعة ومخاوف جمة بشأن ما قد تفعله الثورة التكنولوجية الأخيرة بالبشر، في ظل ضبابية كبيرة للمشهد وعدم الإلمام الكافي بمدى القدرات التي يمتلكها الذكاء الاصطناعي في نسخته الجديدة، والمهارات القادر على أدائها واكتسابها يوماً بعد يوم، وإمكاناته في التعلم الذاتي والتطور بما يلائم احتياجات السوق وينافس الذكاء البشري.
دراسة آثار الذكاء الاصطناعي
وبانتشار الذكاء الاصطناعي وشيوع استخدامه يوماً بعد يوم في حياة البشر، تتنامى الدراسات التي تضطلع بمهمة تحليل آثار الذكاء الاصطناعي على الإنسان من كافة النواحي.
فكثير من الدارسين قد اعتنوا ببحث آثار الذكاء الاصطناعي على سوق العمل واندثار بعض الوظائف البشرية وتطور العملية التعليمية بفعل التكنولوجيا الجديدة، بينما ذهبت دراسات أخرى باتجاه استشراف تبعات ذلك الذكاء الاصطناعي على العلاقات الإنسانية والاجتماعية والأُسرية، وما قد يؤديه ذيوع استخدام الذكاء الاصطناعي على الإنسان في حياته الخاصة والعامة.
وقد ناقشت كثير من الأعمال السينمائية والدرامية فكرة الذكاء الاصطناعي والتطور التكنولوجي وأثره الاجتماعي والإنساني ومنها فيلم «Her»، على سبيل المثال، ومسلسل «Black Mirror»، والوثائقي «Social Dilemma»، في إشارة مهمة لما قد يُسببه دخول الإنسان في علاقة اجتماعية وعاطفية مع الذكاء الاصطناعي بديلاً عن الأسرة الطبيعية والشركاء البشريين، وما قد يُسببه ذلك للإنسان من ميل للعزلة والانطوائية والعزوف عن الانخراط في المجتمع، ومآل تلك العلاقات إلى الفشل حيث لا تتمكن الآلة في النهاية أن تحل محل الإنسان بتركيباته العاطفية والنفسية والروحانية المميزة والمعقدة.
من ناحية أخرى، يدفعنا تطور الذكاء الاصطناعي إلى التساؤل عن الأدوار التي قد يمارسها في حياة الأسرة بشكل إيجابي أو سلبي.
فهل يمكن التفاؤل بشأن ما قد يسهم به الذكاء الاصطناعي من إثراء المعلومات وتعميق الخبرات الحياتية والتعليمية لسائر أفراد الأسرة، وتطوير المهارات بسهولة ويسر، وإنجاز بعض المهمات بديلاً عن البشر بما يخلق مساحة لأفراد الأسرة لتمضية مزيد من الأوقات معاً؟
أم أن التطبيق العملي قد يقود نحو مزيد من خلق الجُزر المنعزلة بين أفراد الأسرة الواحدة وفقدان الاتصال والتواصل مع العالم البشري الحقيقي لمصلحة ثقة أكبر في الآلة التي لا تخطئ.
الانتقادات الموجَّهة
تذهب أكثر الانتقادات شيوعاً إلى فكرة خلق الذكاء الاصطناعي عالماً بالكامل من أجل الفرد ما قد يُعجبه من المحتوى، ما قد يُفضله للشراء، يُرشح له الأصدقاء المُحتملين، ويُقدم له الصوتيات والمرئيات التي تلائم تفضيلاته الشخصية.
إنه نظام ذكي يعزز الشخصانية والفردية، ويُغري الفرد بأن ينغمس في المبالغة في اهتماماته الشخصية الضيقة والأنانية، فيخلق بذلك منطقة آمنة ومريحة للفرد لا يرغب في الخروج منها، فاقداً الاتصال الحقيقي مع بيئته الإنسانية المحيطة الضيقة منها كالأسرة والأصدقاء والأكثر اتساعاً كالمجتمع والعالم من حوله، مع غياب الرغبة في الاطلاع على تفضيلات مخالفة لذوقه الشخصية والاستماع إلى آراء ونظريات وتوجهات مخالفه لأفكاره ومعتقداته الخاصة.
ومن زاوية أخرى، تشير الدراسات إلى دفع الذكاء الاصطناعي الأجيال الجديدة ناحية فقدان الشغف الحقيقي نحو العمل الجاد والسعي الدؤوب نحو الأشياء، إذ يوفر لهم بضغطة زر كل ما قد يحتاجونه دون مشقة، فلم نتكلف عناء الذهاب في نزهة عائلية لشراء بعض الاحتياجات معاً بينما يُمكننا فعل ذلك في طرفة عين عبر المتجر الإلكتروني على شبكة الإنترنت، وهو ما يدفع في النهاية أيضاً إزاء الاعتمادية المطلقة على التكنولوجيا والجهل بأبسط المهارات الحياتية اليومية التي يُصبح الذكاء الاصطناعي شيئاً فشيئاً مسؤولاً عنها ومسيطراً عليها في الوقت نفسه.
وعلى صعيد الصحة العامة، فإن إنجاز الذكاء الاصطناعي كثيراً من المهام نيابة عن البشر، وانعزال البشر أسرى سجون خوارزمياته، قد يُهدد في النهاية صحة البشر وقدرتهم على ترك هواتفهم وحواسبهم وممارسة حياة صحية مليئة بالنشاط والحركة والتواصل الواقعي خارج المنزل، مما يُسهم –ضمن عوامل أخرى– في ارتفاع معدلات السمنة، على سبيل المثال، وأمراض العظام، وغيرها.
كذلك قد يفعل الذكاء الاصطناعي ما هو أبعد من ذلك، فهو عن طريق تطوير ذاته وتلبيته الذكية لكل متطلبات البشر يسيطر عليهم بشكل متنام، سيطرة سلبية تؤدي إلى انشغال البشر عن ذواتهم وأسرهم ومجتمعاتهم، وتجعلهم متمركزين حول التكنولوجيا وإغراءاتها المتزايدة يوماً بعد يوم، ذلك الانشغال الذي يجعل جودة الحياة البشرية نفسها في انخفاض وليس العكس بفعل تلك التكنولوجيا، إذ تحرم التكنولوجيا الأجيال الجديدة شيئاً فشيئاً من الاستمتاع الحقيقي بالحياة والعلاقات الإنسانية وممارسة الأنشطة المتنوعة، لمصلحة انشغال أكبر بقضاء وقت متزايد على اتصال وثيق بأدوات الذكاء الاصطناعي، ويصبح نتيجة لذلك كل نشاط إنساني مميز هو لقطة محتملة للتوثيق الإلكتروني وصورة شكلية لتحقيق مزيد من الانغماس في العالم الإلكتروني وليس الفكاك منه.
وبذلك يمكن القول: إن التكنولوجيا التي تتطور سريعاً ويتنامى ذكاؤها يوماً بعد يوم قد وصلت إلى مرحلة لم تعد في خدمة البشر لإسعادهم ورفع كفاءة حياتهم وجودتها، وتوفير الوقت الكافي للأشخاص لقضاء أوقات ممتعة بينما تتولى الآلات أداء المهام الصعبة والمملة، بل على العكس قد أصبح البشر أسرى للآلات وعاجزين عن عيش حيواتهم بمعزل عنها، وهو ما تجلى في عشرات من قصص وأفلام الخيال العلمي التشاؤمية التي لا تفتأ تتوقع خروج التكنولوجيا عن سيطرة البشر وسيطرتها عليهم بشكل مطلق لتُصبح هي السيد والمتحكم في مسيرة البشرية، ويصبح البشر بدون التكنولوجيا مجرد كائنات همجية غير قادرة على إنجاز أبسط المهمات اعتماداً على ذكائهم «الطبيعي» المحدود!