إن الإسلام يفرض على المسلمين أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، لاسترداد أرضهم المغصوبة، ولا يقبل منهم أن يفرّطوا في أي شبر أرض من دار الإسلام، يسلبها منهم كافر معتد أثيم، وهذا أمر معلوم من الإسلام للخاصة والعامة، وهو مجمع عليه إجماعاً قطعياً من جميع علماء الأمة، ومذاهبها كافة لا يختلف في ذلك اثنان، ولا ينتطح فيها عنزان، كما يقال.
وهذا الحكم في أي جزء من دار الإسلام، أياً كان موقعه، من بلاد العرب أو العجم، فكيف إذا كان هذا الجزء هو أرض الإسراء والمعراج، ومرابط البراق، ودار المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، أولى القبلتين في الإسلام، وثالث المساجد العظيمة التي لا تشد الرحال إلا إليها؟!
إن هذا يؤكد وجوب الجهاد والقتال في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان.
وإذا قصَّر المسلمون في الجهاد للذود عن أوطانهم، والدفاع عن حماهم واسترداد ما اغتصب من ديارهم، أو عجزوا عن ذلك لسبب أو لآخر، فإن دينهم يفرض عليهم مقاطعة عدوهم مقاطعة اقتصادية واجتماعية وثقافية، لعدة أسباب:
أولها: إن هذا هو السلاح المتاح لهم، والقدر الممكن من الجهاد، وقد قال الله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60)، فلم يأمرنا الله إلا بإعداد المستطاع، ولم يكلفنا ما لا طاقة لنا به، فإذا سقط عنا نوع من الجهاد لا نقدر عليه، لم يسقط عنا أبداً ما نقدر عليه، وفي الحديث الصحيح: “إذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم” (متفق عليه).
وثانيهما: إن تعاملنا مع الأعداء؛ شراء منهم وبيعاً لهم وسفراً إلى ديارهم، يشد من أزرهم، ويقوي دعائم اقتصادهم، ويمنحهم قدرة على استمرار العدوان علينا، بما يربحون من ورائنا، وما يجنونه من مكاسب مادية، وأخرى معنوية لا تقدر بمال، فهذا لون من التعاون معهم، وهو تعاون محرم يقيناً، لأنه تعاون على الإثم والعدوان، قال لله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2).
وثالثهما: إن التعامل مع الأعداء المغتصبين استقبالاً لهم في ديارنا، وسفراً إليهم في ديارهم؛ يكسر الحاجز النفسي بيننا وبينهم، ويعمل -بمضي الزمن- على ردم الفجوة التي حفرها الاغتصاب والعدوان، التي من شأنها أن تُبقي جذوة الجهاد مشتعلة في نفوس الأمة، حتى تظل الأمة توالي من والاها، وتعادي من عاداها، ولا تتولى عدو الله وعدوها المحارب لها، المعتدي عليها، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء) (الممتحنة: 1)، وهذا ما يعبرون عنه بـ “التطبيع”؛ أي جعل العلاقات بيننا وبينهم “طبيعية” سمناً على عسل، كأن لم يقع منهم اغتصاب ولا عدوان، وهم لا يكتفون اليوم بالتطبيع الاقتصادي، إنهم يسعون إلى التطبيع الاجتماعي والثقافي، وهو أشد خطراً.
ورابعها: إن اختلاط هؤلاء للناس بنا واختلاطنا بهم، بغير قيد ولا شرط، يحمل معه أضراراً خطيرة بنا، وتهديداً لمجتمعاتنا العربية والإسلامية، بنشر الفساد والرذيلة والإباحية التي تربوا عليها، وأتقنوا صناعتها، وإدارة فنونها وما وراءها من أمراض قاتلة فتاكة، مثل “الإيدز” وغيره، وهم قوم يخططون لهذه الأمور تخطيطاً ماكراً، ويحددون أهدافهم، ويرسمون خططهم لتحقيقها بخبث وذكاء، ونحن في غفلة لاهون، وفي غمرة ساهون.
لهذا كان سد الذرائع إلى هذا الفساد المتوقع فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع.
في ضوء هذه الاعتبارات، نرى أن السفر أو السياحة إلى دولة العدو الصهيوني –لغير أبناء فلسطين– حرام شرعاً، ولو كان بقصد ما يسمونه “السياحة الدينية” أو زيارة المسجد الأقصى، فما كلف الله المسلم أن يزور هذا المسجد وهو أسير تحت نير دولة يهود، وفي حراسة حراب بني صهيون، بل الذي كلف المسلمون به هو تحريره وإنقاذه من أيدهم، وإعادته وما حوله إلى الحظيرة الإسلامية، وخصوصاً أنه يتعرض لحفريات مستمرة من حوله ومن تحته لا ندري عواقبها، إنما يدري بها اليهود الذين ينوون أن يقيموا هيكلهم على أنقاضه؛ (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال: 30).
إننا جميعاً نحِنُّ إلى المسجد الأقصى، ونشتاق إلى شد الرحال إلى رحابه المباركة، فإن الصلاة فيه بخمسمائة صلاة في المساجد العادية.
ولكنا نُبقي شعلة الشوق متقدة حتى نصلي فيه، إن شاء الله، بعد تحريره وما حوله، وإعادته إلى أهله الطبيعيين وهم أمة العرب والإسلام.
ويستطيع المسلم الذي يريد أن يكسب أجر مضاعفة الصلاة في المسجد الأقصى، أن يشد رحاله إلى المسجد النبوي الشريف، فإن الصلاة فيه بألف صلاة في المساجد العادية؛ أي أن أجرها ضعف أجر الصلاة في المسجد الأقصى.
بل يستطيع أن يشد رحاله إلى المسجد الحرام الذي هو أفضل بيوت الله على الإطلاق، وأول بيت وضع في الأرض لعبادة الله تعالى، والصلاة فيه بمائة ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد النبوي، والمسجد الأقصى.
ومعنى هذا أن الصلاة في المسجد الحرام بمكة المكرمة تعدل مائتي صلاة في المسجد الأقصى، فمن اشتاق إلى المسجد الأقصى اليوم فليطفئ حرارة شوقه بالسفر إلى المسجد النبوي بالمدينة، أو المسجد الحرام بمكة، حتى يمكِّن الله الأمة من إعادة الحق إلى نصابه، ورد الأمانات إلى أهلها؛ (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ) (الروم:4).
وأما دعوى أن السلام قد حلَّ محل الصراع بيننا وبين بني صهيون فهي دعوى لا تقوم على ساقين، والقدس لم ترد إلينا، بل ما زال قادة الكيان الصهيوني يعلنون أن القدس هي العاصمة الأبدية لدولتهم، وما زالوا يزرعون المستوطنات من حولها ويغيِّرون من معالمها، وما زال المسجد الأقصى تحت رحمتهم، أو قسوتهم، وما زال اللاجئون الفلسطينيون مشردين في الأرض، وما زال السلام المزعوم كله في مهب الريح، وما زال.. هذا لو قبلنا مبدأ السلام مع مغتصبي الأرض، فكيف وهو مرفوض شرعاً، كما بيَّنا ذلك في فتاوى سابقة؛ (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) (الأنفال: 42).
هذا ما أقوله للأمة في هذه الآونة الخطيرة التي يراد أن يغيب عنها وعيها بقضاياها، وأن تحقن بمخدرات من الأفكار تفقدها القدرة على الحركة، بل على التمييز بين الصواب والخطأ، لكن الأخطر من هذا كله أن تجد بعض من ينتسبون إلى الدين –ممن فقدوا العلم الواسع أو التقى الرادع– ليفرخوا فتاوى تجيز للأمة أن تضع أيديها مختارة في أيدي قاتليها ومغتصبي ديارها، مؤثرين المصالح الآنية الجزئية المحدودة المظنونة على المصالح الكبرى الأساسية الكلية الدائمة والقطعية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه اللهم آمين.