«نحن أعلم بشؤون دنيانا».. هكذا يقول أعداء الإسلام في بلادنا، بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «نحن أعلم بشؤون دنيانا»، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»؟ فلماذا تُقحمون الشريعة في أمور نحن أعلم بها من غيرنا؟!
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
أولاً: نؤكد صحة هذا الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ولفظه عن طلحة رضي الله عنه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل فقال: «ما يصنع هؤلاء؟»، فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أظن يغني ذلك شيئاً»، قال: فأُخبروا بذلك فتركوه، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل»(1).
وفي رواية عن رافع بن خديج قال: قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يَأْبُرُونَ النخل، يقولون يُلقِّحون النخل، فقال: «ما تصنعون؟»، قالوا: كنا نصنعه، قال: «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً»، فتركوه فنفضت أو فنقصت، قال: فذكروا ذلك له، فقال: «إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر»(2).
وفي رواية عن أنس وعائشة رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون، فقال: «لو لم تفعلوا لصلُح»، قال: فخرج شيصاً، فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؟»، قالوا: قلت كذا وكذا، قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»(3).
ثانياً: لقد تعامل علماء الإسلام مع هذه الروايات من خلال سياقها الصحيح، وهو كما قال ابن تيمية يرحمه الله: «لم ينههم عن التلقيح، لكنهم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم، كما غلط من غلط في ظنه أن «الخيط الأبيض» و«الخيط الأسود» هو الحبل الأبيض والأسود»(4).
وكما قال الإمام النووي يرحمه الله: «لم يكن هذا القول خبرًا، وإنما كان ظنًا كما بينه في هذه الروايات، ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش وظنه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك»(5).
وكما قال الطحاوي يرحمه الله: «لم يكن ذلك منه صلى الله عليه وسلم إخباراً عن وحي، وإنما كان منه على قول غير معقول ظاهر مما يتساوى فيه الناس في القول، ثم يختلفون فيتبين ذوو العلم به عمن سواهم من غير أهل العلم به، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان يعاني ذلك، ولا من بلد يعانيه أهله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ولد بمكة، ولم تكن دار نخل يومئذ، وإنما كان النخل فيما سواها من المدينة التي صار إليها صلى الله عليه وسلم، وكان القول في الأمر الذي قال على الظن به»(6).
ثالثًا: يريد العلمانيون وأذيالهم من خلال الفهم المحرف لهذه الروايات الوصول إلى أن كل ما جاء في النصوص الشرعية متعلقاً بأمر من أمور الدنيا على جهة الأمر أو النهي أو غير ذلك، فإن تلك النصوص تصبح كأن لم تكن، ويتم التعامل مع الأمور الدنيوية من خلال الرأي البشري القائم على المصلحة أو التجربة على أساس أنها مسألة دنيوية، لا دخل للشرع فيها، وبعد تقريرهم لتلك القاعدة الفاسدة، إذا أعياهم تأويل أو تحريف أي نص يتعلق بمسألة لهم فيها رأي مناقض للشرع، إذا أعياهم ذلك، قالوا: هذه من مسائل الدنيا وأمورها، وبالتالي فنحن أحق بها، ولا دخل للشريعة فيها(7)!
رابعًا: نؤكد أن رأي هؤلاء مردود إليهم؛ لأنه مخالف لكل ما ذهب إليه علماء الإسلام، وما ذكره هؤلاء لم يسبقهم إليه أحد من أهل العلم.
إن مجال هذه الروايات التي يحتج بها هؤلاء هو «أمر الدنيا ومعايشها»، وقد قيد العلماء «أمر الدنيا ومعايشها» بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله على سبيل الرأي، لا على سبيل التشريع وهذا التقييد يعني أمرين:
الأول: أن الأمور التي يقال فيها: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» هي تلك الأمور التي لم تتناولها الأدلة الشرعية تناولاً عاماً أو تناولاً خاصاً، أو الأمور التي تناولتها السُّنَّة لا على سبيل التشريع، وإنما على سبيل الرأي فقط.
الثاني: أن الأصل في كل ما تناولته النصوص الشرعية –ولو كان متعلقاً بأمر الدنيا أو المعاش أو غيره- أن يكون على سبيل التشريع إلا أن تأتي قرينة تدل على خلاف ذلك ويؤيد هذا أمران:
أ- تصرف الصحابة في القصة المذكورة حيث امتنعوا من تأبير النخل –رغم خبرتهم السابقة عن أهمية التلقيح- وذلك لعدم ظهور دليل أو قرينة تبين لهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ما قال على غير سبيل التشريع، وهذا يعني أنهم رضي الله عنهم تعاملوا مع أقواله صلى الله عليه وسلم -ولو كانت في أمور الدنيا- على أنها من التشريع حتى يأتي ما يبين لهم أنها رأي لا يقصد منه التشريع.
ب- اتفاق العلماء على أن الأصل في كل ما جاء في النصوص الشرعية يتم التعامل معه على أنه تشريع، حتى تظهر قرينة أو دليل يبين أنها جاءت على سبيل الرأي لا على سبيل التشريع.
خامسًا: الرسول صلى الله عليه وسلم -كما ظهر لنا من الروايات السابقة- لم يأمرهم أمراً مطلقاً، ولم ينههم نهياً مطلقاً، وألفاظ الحديث ورواياته المتعددة تدل على ذلك، وإن كان من سمع هذا الموضوع من الصحابة رضي الله عنهم قد غلَّبوا جانب التشريع، فقد جاء في ألفاظ الحديث ورواياته: «ما أظن يغني ذلك شيئاً»، وجاء: «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً»، مما يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث عن ظن أو خبرة دنيوية لا علاقة لها بالتشريع، ولذلك لما غلَّب بعض الصحابة رضي الله عنهم جانب التشريع في ذلك، وضَّح لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يرد ذلك وأن كلامه السابق لا يدل عليه، ولذلك قال لهم معقباً على تصرفهم إزاء مقالته السابقة: «فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن»، وقال: «إذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر»، وقال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»، فالروايات كلها متضافرة على أن ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة كان من قبيل الرأي المتعلق بأمور المعاش القائم على الخبرة البشرية التي قد يتاح منها لبعض الناس ما لا يتاح لغيرهم، ولم يكن كلاماً على سبيل التشريع، وإذا تبين ذلك، فقد بطل قول من يرى أن النصوص الشرعية المتعلقة بأمور الدنيا لا يُعول عليها، ولا يُرجع إليها، وإنما يُرجع في مثل هذه الأمور إلى أهل الدنيا والمعرفة بها.
سادسًا: إن «أمر الدنيا» الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه هو تأبير النخل، فلا يقاس عليه إلا ما جرى مجراه وكان على شاكلته، وهو الخبرة العملية المتعلقة بشأن من الشؤون المباحة التي لم يتعلق بها الخطاب الشرعي لا أمراً ولا نهياً، وليس المراد بذلك كل أمر متعلق بالدنيا، لأنه قد جاءت نصوص شرعية كثيرة في أمور الدنيا، وقد تعلق بها الخطاب الشرعي أمراً ونهياً، فكانت بذلك موكولة إلى الشرع يبين حلالها وحرامها وما يصح منها وما لا يصح، ولم تكن موكولة إلى المسلمين يجتهدون فيها بمقتضى عقولهم أو مصالحهم أو أهوائهم، وبذلك تسقط دعاوى العلمانيين ومن تابعهم في تحريف هذا الحديث للخروج من ولاية التشريع الإسلامي(8).
________________________
(1) أخرجه مسلم في «صحيحه» (2361)، وأحمد في «المسند» (3/ 15).
(2) رواه مسلم في «صحيحه» (2362)، وابن حبان في «صحيحه» (1/ 202).
(3) أخرجه مسلم في «صحيحه» (حديث رقم/2363)، وأحمد في «المسند» (20/ 19) (41/ 401)، وابن ماجه في «السنن» (2471).
(4) «مجموع الفتاوى»، ابن تيمية، (18/ 12).
(5) «شرح مسلم»، الإمام النووي، (15/ 116).
(6) «شرح مشكل الآثار»، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة الأزدي الحجري المصري المعروف بالطحاوي، (4/ 425).
(7) «المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام»، علي بن نايف الشحود، (1/ 429)، بتصرف.
(8) «تحطيم الصنم العلماني»، محمد شاكر الشريف، (1/ 168 – 167)، بتصرف.