ذكر المفكر المصري الراحل د. عبد الوهاب المسيري في كتابه «اليهود واليهودية والصهيونية»، عددًا من نقاط التشابه الرئيسة بين الوجدانين الأمريكي والصهيوني، ومن أهمها أن كليهما يرفض التاريخ بعناد وإصرار، أو على الأقل يحوله إلى أسطورة متناهية في البساطة.
بالإضافة إلى أن كليهما مجتمع استيطاني يتكون من المهاجرين الذين عليهم أن يطرحوا عن أنفسهم هويتهم القديمة ليكتسبوا هوية قومية جديدة بمجرد وصولهم إلى نيويورك أو حيفا، واعتبر المسيري نقطة التشابه الأساسية بين الوجدانيين هي العنف العنصري.
ومن صور العنف العنصري الإبادة الجماعية وسياسات الفصل العنصري، وهما عبارتان لصيقتان بأفعال الكيان الصهيوني، مهما حاول تلميع صورته الدموية إعلاميًا في غزة، بيد أن «إسرائيل» ليست أول من ارتكب مجازر ومذابح بحق سكان الأرض الأصليين، بل قد سبقها إلى ذلك ممولها الأكبر، ومؤيدها الأول الولايات المتحدة الأمريكية، فقد قامت بادئ ذي بدء على جثث سكانها الأوائل الذين ربما بين 20000 إلى 35000 عام قبل سلسلة من الهِجرات من آسيا إلى أمريكا الشمالية عن طريق مضيق بيرينغ.
وبحلول الوقت الذي ظهر فيه الأوروبيون الأوائل كان السكان الأصليون قد انتشروا واستوطنوا جميع أجزاء ما يُعرف اليوم بأمريكا الشمالية، ويشار لهؤلاء السكان الأصليين عادة بـ«الهنود الحمر»، وهي مجرد كلمة مخترعة.
وبغض النظر عن قصة اختيار هذا الوصف تحديدًا، فهو بالتأكيد ليس توصيفًا حقيقًا للسكان الأصليين، كما أنه وسيلة لمحو حضارة قوم استمرت لآلاف السنين، فكانت لهم لغتهم ولهجاتهم، وعاداتهم وتقاليدهم، ثم بمجرد وصول المحتل صاروا نسيًا منسيًا، وغدا صاحب الأرض نفسه أقلية في أرضه.
وخلال الـ500 عام الماضية، واجه الأمريكيون الأصليون الإبادة الجماعية والتشريد وأشكالًا مختلفة من الاعتداءات الجسدية والعنصرية الاجتماعية، وقد أدت هذه العوامل إلى ارتفاع معدلات العنف والاعتداء والانتحار والفقر بين السكان الأصليين اليوم، وأصبح صاحب الأرض لا يملك حتى حق الحياة الكريمة التي يزعم المجتمع الدولي أنه يضمنها لكل إنسان.
وما أشبه اليوم بالبارحة، فقط تغيرت الأسماء ولكن الخطة واحدة؛ وهي إبادة السكان الأصليين، وذلك كما ذكر بن جوريون عام 1937م في مذكراته: «إذا استوطن أربعة يهود بدلًا من كل عربي؛ فإن ذلك سيعود علينا بفائدة كبيرة».
وفي مذكرات عام 1941م ذكر أنه من الصعب تصور عملية ترحيل تامة من دون إكراه، وإكراه وحشي من أجل ذلك.
ويعلق لورانس دافيدسون، في كتابه «الإبادة الثقافية»، على ما قاله بن غوريون في مذكراته فقال: «بالنسبة إلى بن غوريون، فإن الترحيل الإجباري لأكبر عدد ممكن من العرب أصبح الآن خطوة ضرورية للحصول على دولة يهودية حقيقة، وخصوصًا أنه في عام 1947م كان هناك قرابة المليون فلسطيني -في المناطق التي كان الصهاينة يأملون احتلالها- مقابل 600 ألف يهودي».
ويعلق دافيدسون على تلك الإحصائية فيقول: «بالنسبة إلى بن جوريون، فإن تحقيق التوازن الديموغرافي الإيجابي والمقبول يتطلب -على الأقل- وجود أكثرية يهودية بنسبة 80%، ولتحقيق ذلك يجب إتمام خطة هجرة اليهود إلى فلسطين، وذلك بتهجير العرب منها».
وكما ذكرنا آنفًا، فإن بن جوريون لا يمانع إن تم هذا التهجير بوحشية وفظاعة، وهو ما حصل في مذبحة الطنطورة، التي أجاب فيها أحد جزاريها الصهاينة حين سئل عن عدد من اُستشهدوا على يديه، فقال: «من المستحيل عليَّ معرفة عددهم، فقد كان سلاحي يحتوي على 250 رصاصة، أطلقتها كلها وقتلت الجميع؛ لذا من المستحيل بمكان أن أعرف عددهم».
وقد قال هذا وقد افترَّ عن أسنانه ضاحكًا! ويكأنه يتحدث عن توزيع هدايا لا عن عملية إبادة جماعية في مذبحة وُصفت بأنها الأبشع بين أكثر من ثمانين مذبحة، ارتكبها الصهاينة ضد إخواننا الفلسطينيين، فكانت مذبحة الطنطورة من أول مذابحهم، ثم بعد أسبوع واحد فحسب من إعلان دولتهم المزعومة، قتلوا رجال قرية الطنطورة؛ وذلك بإجبارهم على حفر خنادق ثم أطلقوا عليهم النار، فأضحت تلك الخنادق مقابر جماعية لهم، والمنطقة الآن عبارة عن موقف سيارات بشاطئ موشاف دور، وبعدها اغتصبوا النساء وأخذوا الأطفال، ثم أقاموا مستوطناتهم على قرية الطنطورة بعد أن قتلوا رجالها وهجروا نساءها وأطفالها، فأنشؤوا مستعمرة نحشوليم عام 1948م، ومستعمرة موشاف دور عام 1949م.
لم يكن بن جوريون الصهيوني الوحيد الذي رأى في العنف حلًا، بل كل من جاؤوا بعده حذو حذوه فعلًا وقولًا، فيجب ألا يغيب عن ذاكرتنا ولو لوهلة تصريح جولدا مائير الشهير: «لن نغفر للعرب أنهم أجبرونا على قتل أطفالهم»، وهو مماثل لتصريح صحفي لرائد في الجيش الأمريكي بعد تدمير بلدة بن تري الفيتنامية عام 1968 حين قال: «لقد أصبح من الضروري تدمير هذه البلدة من أجل إنقاذها»! فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا! فسواء كانوا مسيحيين بيوريتانيين أو كانوا يهودًا صهاينة فكلاهما يحسب أنه بحكم كونه أحدهما صار له الحق في الأرض والحياة والحكم، وصار الفناء من نصيب كل ما سواه!