تنفس صباح السابع من أكتوبر على مفاجأة هزت أركان العالم، حيث اقتحم مئات المجاهدين من كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) أرض فلسطين المحتلة عام 1948 فيما يعرف بغلاف غزة، وأعلنت الحركة عن هذه المعركة على لسان قائدها العسكري أبوخالد الضيف الذي حدد أهداف معركة “طوفان الأقصى” بأنها استنقاذ للمسجد الأقصى المبارك من خطر التهويد والتقسيم والهدم، وعملا لفكاك الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال البغيض، ونستعرض هنا مجموعة من الرسائل التي وجهها المجاهدون من ميدان المعركة.
الرسالة الأولى: لا تُحسم معارك الميدان قبل حسم معارك الوجدان
ما كان لهؤلاء الأبطال الذين دخلوا على اليهود الباب ليثبتوا وينتصروا دون إعداد إيماني ونفسي محكم، فكانوا ترجمة عملية لتوجيه الإمام حسن البنا الذي قال في إحدى رسائله للشباب: «ميدانكم الأول أنفسكم، فإذا انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإذا أخفقتم فى جهادها كنتم على سواها أعجز، فجربوا الكفاح معها أولاً». وإن التربية الإيمانية هي أول ميادين تربية النفس، فهي المحرك لكل خير والدافع لكل رشد، فما أحوج النفس إلى مدد يقويها، وزاد يمدها بالتزكية، وأهم زاد يبلغ المجاهد کماله الإيماني هو تقوى الله، والاستعانة به، والالتجاء إليه، والاعتصام بحبله.
وإن مما أثار دهشة المتابعين وجود كتيبة من كتاب القسام تسمى (كتيبة الحفاظ) لا ينتسب إليها إلا من اتصف بصفات عديدة على رأسها حفظ كتاب الله. هذا الإيمان الراسخ جعلهم على يقين بالفوز المبين والنصر القريب، كيف لا وهم يتلون قول الله تعالى: (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) [التوبة 52] (ولينصرن اللهُ من ينصره إن الله لقوي عزيز) [الحج 40] (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) [محمد 7] (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) [الحج 38] (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) [البقرة 249]. وهذا نبيهم حبيبهم صلى الله عليه وسلم يبشرهم بالنصر والتمكين فيقول: “بشِّرْ هذهِ الأُمَّةَ بالتيسيرِ، والسناءِ، والرِّفعةِ بالدِّينِ، والتَّمكينِ في البلادِ، والنصر“، وقال: “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك“، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس“.
الرسالة الثانية: وجوب استفراغ الوسع
انطلاقا من أمر الله تعالى للمؤمنين: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) [الأنفال 60] فقد تفانت كتائب القسام بإعداد العدة وتمثل ذلك بأشكال عديدة: تدريب عالٍ للمجاهدين، وتأسيس أكاديمية عسكرية تخرج القادة المختصين، وصناعة عسكرية محلية فاعلة تنتج ما يناسب القتال برا وبحرا وجوا، ومواكبة التقنية الحديثة، والإعلام المعنوي والعسكري المحترف، والوعي الأمني الفائق، وغير ذلك من أصناف القوة المطلوبة للنجاح في المواجهات الميدانية، وبعد بذل أسباب القوة نجدهم يتعلقون برب الأسباب ويتكلون عليه لا عليها، فالنصر من عند الله عقيدة راسخة، ووجوب الإعداد واجب على المؤمنين عقيدة راسخة أيضا.
الرسالة الثالثة: إعداد البيئة الحاضنة للمقاومة
إن النجاح في ميدان المعركة يتطلب بالإضافة إلى إعداد المجاهدين إيمانيا وجسديا وفنيا، إعداد البيئة الحاضنة للمجاهدين، وإن ما لمسناه من صمود المجتمع الغزي وثباته وتسليمه لأمر الله تعالى كان عاملا رئيسا في ثبات المجاهدين وانتصارهم وتبكيت عدوهم، وكأنهم يجسدون قصيدة الشاعر الفذ الشهيد عبدالرحيم محمود التي جاء فيها:
سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدى
وهي رسالة موجهة للعاملين في حقل الدعوة والتربية المناط بهم توجيه المجتمع وتربيته على هذه المعاني العظيمة، فيا معاشر الدعاة في كل مكان قوموا بأداء وظيفتكم في مجتمعاتكم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، لتصبح هذه المجتمعات الحاضنة الملائمة لتخريج المجاهدين واحتضانهم، لتسير أمتنا الإسلامية على صراط الله المستقيم ومنهجه القويم كي تستعيد مجد الأمة وعزها.
الرسالة الرابعة: هشاشة الكيان الصهيوني (نمر من ورق)
أثبت المجاهدون في غزة بما لا يدع مجالا للشك أكذوبة الجيش الذي لا يقهر، فإنهم على الرغم من قلة عددهم وعدتهم مقارنة بما عند عدوهم من أسباب القوة الظاهرة استطاعوا أن يكسروا هيبتهم ويمرغوا أنوفهم بالتراب، ذلك الجيش الذي كان يتباهى بانتصاره على الجيوش العربية عام 1948 وعام 1967، وهي رسالة مهمة لزعماء الأمة العربية والإسلامية أن هذا الكيان هش وأنه كالفقاعة المنتفخة الجوفاء إذا اقتربت منها وواجهتها فسرعان ما ستنفجر، فهو في الظاهر نمر مفترس وفي الحقيقة نمر من ورق، لقد أثبت المجاهدون -كما قال تميم البرغوثي- “أن تحريرها كلها ممكن، وأن تحريرها كلها قد بدأ”.
إن الجيوش العربية والإسلامية قادرة –إن أراد قادتها- على الانتصار على هذا الجيش وعلى داعميه، ولكن هذا الشرف لا يؤتيه الله إلا للقادة الربانيين من عباده، فهنيئا لمن كُتب على يديه هذا الشرف. وليعلم الجميع أن قوى الاستبداد في أمتنا الجاثمة على صدور شعوبها هي العقبة الكأداء أمام نهضة الجماهير لدحر المحتلين.
الرسالة الخامسة: الكيان فاقد للقيم الأخلاقية وهو خطر على الإنسانية
لقد كشفت هذه المعركة الغشاوة عن عيون الغافلين عن حقيقة هذا الكيان الغاصب، وأسقطت ورقة التوت الأخيرة عن سوأته، ليظهر أمام العالم أجمع على حقيقته المخزية، ويسقط مقولة أن هذا الكيان هو مثال للدولة الديمقراطية في الشرق الأوسط، فلم تكن إنجازاته العسكرية بعد فشله في هزيمة المجاهدين سوى المجازر البشعة في حق المدنيين العزل ضاربا عرض الحائط بكل الشرائع والقوانين الدولية التي تجرم هذه الأعمال، وقد بين الله تعالى لنا فساد معتقدهم تجاه غير اليهود فقال: (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) [آل عمران 75]، بل إن هذا الكيان تجرد من كل قيمة حتى تجاه أسراه الذين احتجزتهم المقاومة، فقد حاول مرات عديدة قصف الأماكن التي ظن وجودهم فيها، بينما في المقابل نجد المجاهدين يحققون قول الله تعالى في معاملة الأسرى: [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)] (الإنسان) فضربوا أروع الأمثلة في سماحة ديننا ونبل قيمنا.
الرسالة السادسة: مسارعة قوى الغرب لإنقاذ الكيان (بعضهم أولياء بعض)
بعد السابع من أكتوبر سارعت قوى الغرب لنجدة ربيبتهم «إسرائيل» فحشدوا القوات وأمدوا الاحتلال بالمال والعتاد والخبراء والمقاتلين المرتزقة، وفي هذا رسالة للمسلمين شعوبا وحكاما أنهم كما قال ربنا تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) [الأنفال 73] وقال أيضا: (وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض) [الجاثية 19]، وأن النصر عليهم لا يكون إلا كما قال ربنا: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) [المائدة 51]، وقال: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) [التوبة 71]. وإن الواجب على المؤمنين امتثال قول الله تعالى: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلوكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين) [التوبة 36] فأمرنا بقتالهم مجتمعين كما يقاتلوننا مجتمعين. وما أجمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.
الرسالة السابعة: فلسطين القضية المركزية للأمة الإسلامية بل وللإنسانية
ولعل هذه الرسالة من أهم رسائل الميدان، فقد أعادت معركة “طوفان الأقصى” القضية الفلسطينية إلى مكانتها الصحيحة باعتبارها قضية الأمة المركزية والمحورية، فأيقظت غفلة الغافلين فأنتجت حراكا شعبيا فاعلا في معظم دول العالم الإسلامي، بل وأصبحت فلسطين قضية الإنسانية الأولى فتصدرت اهتمام الشارع الغربي وتعداه لقطع بعض دول أمريكا اللاتينية علاقتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني، وتجمدت عجلة التطبيع المقيت في عالمنا العربي ونرجو أن يكون خطوة تأسيسية لنهاية التطبيع بشكل كلي.
وهذه المكانة لفلسطين فرضتها النصوص الشرعية على المسلمين فهي أرض المسجد الأقصى المبارك والمقدس، ففيها أولى القبلتين وثاني المساجد بناء بعد المسجد الحرام وثالث المساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها، وهي أرض المحشر والمنشر، منتهى الإسراء ومبتدى المعراج، وهذه المكانة المتصدرة عمت الإنسانية لعدالة قضية فلسطين وللظلم الواقع على الفلسطينيين ولبشاعة الاحتلال وإجرامه. وهذا كله يتطلب منا مضاعفة الجهود لإبقاء هذه القضية في الصدارة حتى يتم الله وعده (ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا) [الإسراء 51].
اللهم استعملنا ولا تستبدلنا