تمثل عملية «طوفان الأقصى»، التي نفّذتها «كتائب الشهيد عزّ الدين القسام»، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بما تمّت عليه، وبما استدعته تاليًا من حرب عدوانية غير مسبوقة في الأزمنة المعاصرة في عنفها الهائل وتعمّدها الإبادة الجماعية والإزاحة السكّانية.. تمثّل فرصة مهمّة لإعادة النظر في التاريخ النضالي الفلسطيني ببعديه المقاوم والسياسي.
يمكن القول: إنّ النضال الفلسطيني اتسم بقدر ما من المحافظة التي يُراعي بها القواعد التي من شأنها، بحسب اعتقاد قيادات النضال في المراحل الماضية، أن تحدّ من العنف «الإسرائيلي»، وتقطع عليه التذرّع للمزيد من سياسات استباحة الفلسطينيين، وأن تفتح مجالات للحوار وكسب الأصدقاء في المجالين الإقليمي والدولي، إلا أنّ ذلك كله لم يفض في الحقيقة إلا لتكريس الوقائع الاستعمارية «الإسرائيلية»، وهو ما تأكّد بعد توقيع اتفاقية «أوسلو» وتأسيس السلطة الفلسطينية، إذ تفشّى الاحتلال في هذه الفترة استيطانيًّا على القدس والضفّة الغربية، واتخذ من تلك الاتفاقية ووجود طرف فلسطينيّ موادع جسرًا لإعادة تسويق نفسه، والتمدد في الإقليم والعالم، وفتح بوابات التطبيع مع العرب على حساب القضية الفلسطينية!
لقد بدا المشهد في سياق الصراع، قبل عملية «طوفان الأقصى»، وكأنّ القضية الفلسطينية قد صارت في حكم الميّتة، فقد أطبق الاحتلال تمامًا على الضفّة الغربيّة، بالتوسع الاستيطاني، وفصل مناطقها عن بعضها، وعزل القدس عن فضائها الفلسطيني الطبيعي جغرافيًّا وديموغرافيًّا، في حين ظلّ الحصار خانقًا لغزّة، وأفق المقاومة منها محدودًا، في الوقت الذي انتهجت فيه السلطة الفلسطينية سياسة مناوئة تمامًا للمواجهة، وتبنّت فيها أولوية الصراع مع «حماس» على أولوية الصراع مع الاحتلال، الذي لا يريد منها، أي السلطة، إلا أن تكون وكيلاً أمنيًّا.
صعدت الصهيونية الدينية بأطيافها المتعددة، لتغدو أكثر تأثيرًا في السياسة والمجتمع والأمن والسياسات الحربية في الكيان «الإسرائيلي»، وهو الأمر الذي يؤكد من جهة الحكم بفشل مشروع التسوية وكارثيته على الفلسطينيين، ومن جهة أخرى يُعظّم التحديات الأمنية والوجودية بالنسبة للفلسطينيين، الذين باتوا يعانون تغوّل المستوطنين عليهم مباشرة، بالاعتداء الجسدي والاعتداء على الممتلكات، ويعاينون الجهود المحمومة لتقسيم المسجد الأقصى، دون أن يكون هناك أيّ أفق لأيّ تحوّل سياسيّ، ولو في حدود دنيا لصالحهم.
في الأثناء كانت تجري تصفية القضية الفلسطينية بنحو معلن، وبما تبلور في خطة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب المعروفة إعلاميًّا بـ«صفقة القرن»، ومشاريع بنيامين نتنياهو لضمّ الضفة الغربية، وسعي اليمين «الإسرائيلي» لشطب أيّ ممثل سياسي للفلسطينيين ولو كان بسقف واطئ كالسلطة الفلسطينية، وكان التجلّي الفعلي الأبرز لهذه الخطّة عمليات التطبيع العربي «الإسرائيلي»، ذات الطابع التحالفي، وبما يقتضي إدارة الظهر تمامًا للفلسطينيين والتخلّي عن قضيّتهم، وهو ما بنت عليه إدارة جو بايدن الحالية، حينما ثبّتت كل إجراءات ترمب المتعلّقة بالقضية الفلسطينية، كنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل»، والبناء على مشاريع التطبيع السابقة.
إزاء ذلك، بات التفكير الثوري، المنفصل عن القيود المعتادة في النضال الفلسطيني، المحاولة الوحيدة الممكنة لخلخلة الأوضاع المتكلسة، والعودة بالقضية الفلسطينية لتفرض نفسها من جديد على الإقليم والعالم، حتى لو كانت الأثمان المباشرة الناجمة عن هذا الفعل ضخمة وغير مسبوقة ويصعب استيعابها في مجتمع صغير مكشوف الظهر في جغرافيا محصورة، كالفلسطينيين عمومًا في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، أو الفلسطينيين في قطاع غزّة على وجه الخصوص.
هنا تصبح الموازنة بين الكلفة الضخمة المباشرة بما يمكن أن تفتحه من أفق نضاليّ وسياسيّ، وطمس القضية الفلسطينية تمامًا كما كان جاريًا، في الوقت الذي كانت فيه تتنامى بنية تحتية للمقاومة في غزّة، لا بدّ لها أن تقدّم الإجابة العملية على سبب وجودها، وفي مواجهة هذا التحدّي كلّه.
بالنسبة لهذه الكلفة، بات معلومًا لمن ينظر في تاريخ الصراع أنّ «الإسرائيلي» لا يحتاج ذريعة للقيام بهجوم مكلف ودام ومدمر على الفلسطينيين، فمثلاً اجتاح لبنان في العام 1982م وحاصر بيروت، بذريعة محاولة فصيل فلسطيني منشق أصلاً عن حركة «فتح» اغتيال دبلوماسي «إسرائيلي» في لندن، كانت الذريعة تافهة ومكشوفة، فالفصيل المتهم لا علاقة له بمنظمة التحرير الفلسطينية التي استهدفها الاحتلال باجتياح لبنان.
بل قد لا يتذرع الاحتلال بأيّ ذريعة، كما في حربه على غزّة عام 2008 – 2009م، ومن ثمّ فأيّ فعل نضالي مهما كان محدودًا قد يكون مكلفًا، والأمثلة على ذلك لا تكاد تُحصى، وعليه فالمراعاة الدائمة للكلفة قد تعني شللاً نضاليًّا، وهذا الشلل النضالي قد يعني موت القضية الفلسطينية، إن أخذنا السياق سابق الوصف بعين الاعتبار، وهو ما يزداد إلحاحًا مع الهجمات المتكررة للاحتلال على قطاع عزّة التي يُسمّيها «جز العشب»، ويهدف من خلالها إلى استنزاف المقاومة وحرمانها من مراكمة قدراتها.
ومن ثمّ جاءت عملية «طوفان الأقصى» في هذا السياق، وفي سياق أوسع، وهو أصالة المقاومة المؤسّسة في مقابل الاحتلال، وقد جاءت استثنائية بما من شأنه أن يفتح أفقًا أوسع ستتضح ملامحه في المدى المتوسط.