أفلح المسلمون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في ابتكار نظام سياسي لم يسبقهم إليه أي من الأمم السالفة، وهو نظام الخلافة الذي اصطلح الفقهاء على تعريفه بأنه «القيام مقام صاحب الشرع لتحقيق مصالح الدين والدنيا»؛ لذا يوصف بالثنائية لمراعاته مصالح العباد في الدارين، وهو في ذلك يخالف النظم السائدة في عصرهم؛ وهي إما نظم سلطوية دنيوية تمجد سلطان الفرد أو ما أسماه ابن خلدون بـ«الكسروية»، أو نظم ثيوقراطية دينية تزعم أنها تحكم باسم الإله.
الفقهاء: سيادة الدولة لا تنافي الفكرة الإسلامية لأن الحاكم نائب عن الأمة وليس مفوضاً من الله
أصَّل الفقهاء لنظام الخلافة، ودوَّنوا في طبيعته ودواعيه والأسس التي تجعل منه ضرورة من ضرورات الاجتماع البشري، ومن هؤلاء ابن تيمية في كتاب «الحسبة»، وفيه اعتبر الخلافة لا غنى عنها؛ لأن «كل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال: الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة، ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد، والناهي عن تلك المفاسد، فجميع بني آدم لا بد لهم من طاعة آمر وناهٍ».
وما ذكره ابن تيمية هو الأصل في نظرية «العقد الاجتماعي» الذي تقوم عليه الدولة الحديثة، فالبشر لا بد لهم من إطار ينظم اجتماعهم الإنساني ويحقق مصالحهم ويدفع عنهم الأخطار التي تهددهم، وفي مقابلة هذه المنافع يتنازل الأفراد طواعية عن بعض حرياتهم ومكتسباتهم لصالح هذا الإطار دولة كان أم خلافة.
وهذا لا يعني أن ثمة تطابقاً بين الخلافة والدولة القومية الحديثة التي ظهرت في الغرب منذ ثلاثة قرون وعمت العالم بعدها؛ ذلك أن هناك مسائل حيوية تتقاطع فيها الخلافة مع الدولة القومية الحديثة، ومن بينها مسائل السيادة والشرعية والديمقراطية وسلطة الدولة على مواطنيها.
حرية الدولة مكفولة إلا من قيدين عدم مخالفة الشرع وعدم الإضرار بالمصلحة العامة للأمة
– السيادة:
وهي في التعريف السياسي المعاصر «السلطة العليا التي لها حقّ إصدار القوانين، وإلزام النّاس بها جميعاً من دون أن تكون مقيّدة بشيء ولا أن تستمد مشروعيّتها من أحد، فهي سلطة واحدة مطلقة مقدسة»، وهذا التعريف يعني أمرين؛ أنها لا تعترف بمشروعية أعلى منها حتى وإن كانت إلهية، وأنها بذاتها مقدسة وبالتالي لا تسمح بأي سلطة أخرى تنازعها القداسة.
أما النظرية السياسية الإسلامية كما جسدتها الخلافة فتختلف في هذه المسألة؛ إذ لا تعرف مثل هذه السلطة المطلقة، وإنّما السلطة طبقاً لها ترد عليها قيود مهمة، ولكنها تعرف الشريعة أوامرها ونواهيها وتسعى إلى تطبيقهما، وتعرف السلطان وتضع لتصرفاته إطاراً قانونياً وأخلاقياً ملزماً، لكنها لا تعرف السيادة لأي جهة إنسانية فضلاً عن أن تمنحها صفة القداسة؛ ذلك أن السيادة لله تعالى وحده، لا ينازعه فيه جهة أو مؤسسة أو فرد، ومصدرها الوحي لا الدستور كما في الدولة الحديثة.
وعلى هذا ظل سؤال السيادة محسوماً إسلامياً طيلة قرون، ولم يثر إلا مع سقوط دولة الخلافة منذ قرن، إذ حاول الفقهاء والمصلحون الإسلاميون تقليص الفجوة بين النظريتين الإسلامية والحديثة، فذهبوا إلى أن سيادة الدولة أو الشعب لا تنافي الفكرة الإسلامية؛ لأن الحاكم أو الخليفة هو نائب عن الأمة وليس مفوضاً من قبل الله، وليست له عصمة؛ ويمكن بالتالي مراقبته وعزله إذا خالف ضوابط الشرع، والأمة لها الحق والحرية في اختيار ومبايعة الحاكم الذي تراه مناسباً، وفق الضوابط الشرعية.
الإسلام لم يقدم تفصيلات لطبيعة النظام السياسي فهي محل اجتهاد مع التزام بالقيم الإسلامية
– الشرعية:
القاعدة التي تُبنى عليها الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدولة الإسلامية مقيدة بالشرع، بحيث تعدّ القواعد الشرعية الثابتة بالنص الديني هي الحدود الطبيعية التي لا يجوز لها أن تتخطاها، فالتشريعات والسياسات العامة لا ينبغي أن تخرج عما قرره الشرع، وقد ذهب كثير من الفقهاء إلى أن حرية الدولة مكفولة إلا من قيدين؛ عدم مخالفة الشرع، وعدم الإضرار بالمصلحة العامة للأمة، وفي المقابل تتسع صلاحية التشريع في الدولة المعاصرة لكل شيء إلا ما عارض الدستور، بل لها تعديل الدستور نفسه إذا ما ارتأت الهيئة التأسيسية الممثلة للأمة ذلك.
– الديمقراطية ونظام الحكم:
النصوص الدينية الإسلامية لا تقدم تفصيلات يفهم منها طبيعة النظام السياسي، أو ماهية العلاقة بين الحاكم والمحكوم، إذ تظل هذه المسائل محل اجتهاد أهل كل عصر مع التزام بالقيم الإسلامية المؤطرة لها؛ وهي الشورى والعدالة والمصلحة.
الخلافة لم تسع لأن تكون العلاقة بين الحاكم والمحكوم صلبة قوامها الإلزام والإجبار بل مرنة
وأما النظرية السياسية المعاصرة فهي تدعو إلى ترجيح النظام الديمقراطي على غيره من النظم الحاكمة، مفترضة أنه النظام الأمثل والأجدر بالاتباع، وقد انتقد بعض المفكرين الإسلاميين هذه الدعوة إلى تبني الخيار الديمقراطي، مثل المودودي الذي ذهب إلى أن الديمقراطية تضاد مفهومي الحاكمية والسيادة لله، بما تفترضه من إشعار كل شعب أنه سيد نفسه ويحق له أن يشرع ما شاء متى شاء، ولأنها تتبنى مبدأ الأغلبية العددية حتى وإن كانت مسايرة للأهواء، لكن المفكرين الإسلاميين المعاصرين، مثل حسن الترابي، وراشد الغنوشي، خالفوا ذلك، واعتبروا الديمقراطية هي التمثيل الصادق المعاصر عن مفاهيم الشورى والبيعة والإجماع.
– علاقة الدولة بمواطنيها:
لم تسع الخلافة يوماً لأن تكون العلاقة بين الحاكم والمحكوم صلبة قوامها الإجبار والإلزام، إذ كانت العلاقة بينها ذات طبيعة مرنة، حيث اكتفى الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه بإقرار أهل القبائل على عادتهم وممارساتهم دون تدخل بعد دخولهم الإسلام والاكتفاء بإرسال العمال إليهم، كان الأمر أشبه بحكومة لا مركزية تحقق الاتباع والطاعة، وتمنح كل ناحية أو قبيلة خصوصيتها وحريتها في إدارة شؤونها.
تقاطعات جوهرية تفصل الخلافة عن نُظم الحكم المعاصرة فهما متباينان لا التقاء بينهما
أما في الدولة الحديثة فهي مسؤولة عن كل شيء بالنسبة للمواطن من الميلاد إلى الوفاة؛ فيما يخص الفرد، وحتى تفاصيله، وأسراره، وشؤونه الخاصة، وهي التي تفرض عليه ماذا يعمل وكيف يعمل ومتى وما إلى ذلك، ولا يحق الاختيار في ذلك بموجب الإلزام الحكومي.
الخلاصة، أن هناك تقاطعات جوهرية تفصل نظام الخلافة عن نظم الحكم المعاصرة بحيث يبدو أنهما نظامان متباينان لا التقاء بينهما.