على الرغم من أن القراءة المتأنية لما كان يدور في دولة الخلافة العثمانية في سنواتها الأخيرة تشير بوضوح إلى أن ما حدث أمر متوقع، فإن صدمة كبيرة أصابت الشباب المسلم آنذاك الذي وجد نفسه في مأزق تاريخي لم يسبق له وجود من قبل.
فالأمر لم يكن مجرد سقوط خلافة ومن ثم قيام أخرى بديلة، بل تصفية الفكرة نفسها بما تحمله من دلالات ورموز تشكل هوية الذات المسلمة، بل وجد الكثير من الشباب المسلم نفسه مرغماً على تغيير هويته تارة تحت تهديد مشانق أتاتورك التي أقامها أمام المساجد، وأخرى بفعل عدوى الأفكار التي ربطت بين التخلف والجمود والاستبداد، ونظام الخلافة الذي تصدع وانشقت عنه الهوية الوطنية كبديل أو الهوية القومية كبديل آخر.
سقوط الخلافة مثَّل لدى البعض سقوطاً للمشروع الإسلامي الذي كان يمنح منظومة الخلافة الشرعية
على الرغم من أنه لا يوجد تناقض حقيقي بين الوطنية والقومية والإسلام، بل هي دوائر متداخلة، فإنه تم التعامل مع هذه الهويات باعتبارها هويات متناقضة، وارتبطت الهوية الوطنية والقومية بالعلمانية المعتدلة أو المتطرفة بحسب ظروف كل بلد، وكان نصيب تركيا الحد الأقصى من العلمانية المتطرفة التي تريد محو حتى الرموز الإسلامية الصغيرة في عملية خطف منظمة للهوية المسلمة، ومحاكاة حرفية لما حدث للمسلمين في الأندلس.
وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلها السلطان عبدالحميد لمنع انهيار الخلافة كتحديثه للجيش والتوسع في التعليم وإنشاء خطوط سكك حديدية ومحاولاته للتصدي لجماعة الاتحاد والترقي وغير ذلك، فإنها كانت إصلاحات جزئية لصدع وشقوق كبيرة أصابت الخلافة العثمانية.
فالتحديث الحقيقي الذي كانت تحتاجه كان على مستوى القيم والأفكار، ففي الوقت الذي كانت أوروبا تشتعل بأفكار الثورة الفرنسية وما تحمله من قيم الحرية والفصل بين السلطات والثورة على سلطة الكهنوت، وكان رجال الاتحاد والترقي وشباب تركيا الفتاة بجميع اتجاهاتهم يقرؤون ما ينشر في باريس ويعتمدون عقلية التقليد والمحاكاة للغرب لصناعة هوية جديدة، رفض السلطان عبدالحميد التعاطي مع ما يطرحه عليه جمال الدين الأفغاني من مخطط للإصلاح السياسي للدولة المترهلة ورفض الحكم الدستوري، وأصر على أن يحتفظ بجميع السلطات في يده، وهو موقف سياسي جامد لا يتناسب مع الأحداث التي تتصاعد وتشتعل، وكانت الحاجة ماسة لأحكام سلطانية تتسم بالتجديد ولا تفرط في هوية الأمة الحقيقية بعيداً عن الغبش المرتبط بالاستبداد والتقليد.
صراع الهوية
طرح سقوط الخلافة الكثير من التساؤلات والإشكالات، وجاء سؤال الهوية كواحد من أهم الأسئلة التي طرحت على العقل الجمعي للأمة، فلقد مثل سقوط الخلافة لدى البعض سقوطاً للمشروع الإسلامي الذي كان يمنح منظومة الخلافة الشرعية، وتعالت أصوات تطالب بتقليد أوروبا، أو كما يقول طه حسين: «إننا في هذا العصر الحديث نريد أن نتصل بأوروبا اتصالاً يزداد قوة حتى نصبح جزءاً منها؛ لفظاً ومعنى وحقيقة وشكلاً».
.. وكان الدافع الأهم لظهور العديد من الحركات التي دعت إلى شمولية الإسلام لمناحي الحياة
تحالفت العلمانية مع الهوية الوطنية لتمثل ملمحاً من ملامح الأمة بعد سقوط الخلافة، وعلى الرغم من ذلك لم تكن حركة تحرر وطني حقيقية، وهادنت الاستعمار، ودخلت معه في ألاعيب السياسة، ثم تحالفت مرة أخرى مع الهوية القومية في مد جارف، وتحولت لمنتج يشبه الخلافة، لكنه مقتصر على القومية العربية، ومؤدلج بالعلمانية والاشتراكية، وآمن آخرون بالهوية فوق الوطنية أو الأممية، مع انتشار الفكر الشيوعي بين طبقات من المثقفين والطلبة والعمال خاصة بعد نجاح الثورة البلشفية.
أصبح هناك ما يمكن أن نطلق عليه حالة من الصراع الهوياتي بين هذه المجموعات والأيديولوجيات.
وبقي القطاع الأكبر من الشعوب منشغلاً بأمور المعاش، متمسكاً بهويته الإسلامية بصورة فطرية، فالهوية الإسلامية إحدى ركائز بنائه النفسي، وغياب هذه الهوية عنه يمثل تهديداً وجودياً له.
ارتبط سؤال الهوية بسؤال النهضة: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟! فسقوط الخلافة العثمانية أثار العقل المسلم للبحث عن إجابات، وعن إجراء مراجعة للأفكار والأطروحات، وخاصة ما يتعلق منها بالجانب السياسي، ففي تركيا وبعد هلاك أتاتورك بدأت محاولات حثيثة لاقتحام قلاع العسكر والعلمانيين مرة بتفعيل فلسفة المصلحة، ومرة باقتحام مجال المال والأعمال والصناعة، ومرة بالقبول بقواعد اللعبة السياسية، وكان الهدف من ذلك كله إحياء الهوية الإسلامية والحصول على بعض المكاسب الجزئية؛ كافتتاح المدارس الإسلامية لضمان إبقاء جذوة الوعي مشتعلة في عقول الأجيال الجديدة.
الحركات الإسلامية
أما في البلاد العربية، فقد ظهرت العديد من الحركات التي تدعو لشمولية الإسلام لمناحي الحياة، فسقوط الخلافة العثمانية كان الدافع الأهم لقيام هذه الحركات، أو يمكن القول: إنها النتيجة الأهم التي ترتبت على هذا السقوط، ولعل حركة الإخوان المسلمين من أهم هذه الحركات التي ظهرت بعد سقوط الخلافة ببضع سنوات قليلة للعمل على إعادة إحياء وتجديد الهوية الإسلامية.
بعد مرور قرن كامل على سقوط الخلافة لا تزال الأمة الإسلامية في حالة من الصراع الهوياتي!
انفتحت الحركة على كل الإسهامات الفكرية السابقة لها (أفكار الأفغاني، وعبده، ورشيد رضا)، ودعت لعودة الخلافة الراشدة، وثمَّنت قيمة الشورى، وتعاملت بمرونة مع الواقع السياسي، واستطاعت التوازن بين الثوابت والمتغيرات الكثيرة في المجتمع.
نجحت الحركة في محاولتها للإصلاح بتحويل الأفكار والأشخاص المؤمنين بها (معظمهم من الشباب الذين كانوا يبحثون عن الهوية الإسلامية بعيداً عن الجمود الذي أصابها نتيجة سنوات التقليد والركود) إلى العمل المؤسسي، ومن ثم استطاعت خلال سنوات قليلة الوصول لمرحلة الكتلة الحرجة المؤثرة، وأصبح لها فروع في معظم البلدان العربية تسعى جميعاً لتجديد هوية الشباب المسلم، ولإعادة إحياء فكرة الخلافة الراشدة القائمة على الشورى، وجعل هذا من أهم أهداف الحركة، والنظر بموضوعية لفترة الخلافة العثمانية حتى في سنواتها العجاف الأخيرة.
والآن، وقد استدار الزمان ومر قرن كامل على سقوط الخلافة، ولا تزال أمتنا في حالة من الصراع الهوياتي.. سقطت الشيوعية وظن بعضهم أن التاريخ قد انتهى بانتصار الرأسمالية الجديدة، وحاول آخرون اختطاف وعي الشباب في فضاء العولمة وتذويب هويته واختراقه وتكريس مشاعر عجز الذات الحضارية لديه، لكن معادلة المدافعة أبت إلا أن تقدم لنا نموذج شباب المقاومة؛ شباب «طوفان الأقصى»، كدليل حي يكتب بدمائه الطاهرة هوية الأمة الحقيقية.