«ما هكذا تورد يا سعد الإبل!»(1).
إنما حملت أمانة هذا القلم لأصدع بالحق جهارًا في غير جَمْجَمَة ولا إدهان، ولو عرفت أني أعجز عن حمل هذه الأمانة بحقها لقذفت به إلى حيث يذل العزيز ويمتهن الكريم، وقد قصرت نفسي إلى هذا اليوم على مجلة «الرسالة»؛ لأنها ملاذ الأقلام الحرة التي لا تثنيها عن الحق رهبة، ولا تصدها عن البيان مخافة، وقد جاء اليوم الذي لم يعد يحل فيه لامرئ حر أن يكتم قومه شيئًا يعلم أنه الهدى، فمن كتمه في قلبه فقد طوى جوانحه على جذوة من نار جهنم، تعذبه في الدنيا ويلقى بها في الآخرة أشد العذاب، وأنا جندي من جنود هذه العربية، لو عرفت أني سوف أحمل سيفًا أو سلاحًا أمضى من هذا القلم لكان مكاني اليوم في ساحة الوغى في فلسطين، ولكني نذرت على هذا القلم ألا يكف عن القتال في سبيل العرب ما استطعت أن أحمله بين أناملي، وما أتيح لي أن أجد مكانًا أقول فيه الحق وأدعو إليه، لا ينهاني عن الصراحة فيه شيء مما ينهي الناس أو يخدعهم أو يغرر بهم أو يغريهم بباطل من باطل هذه الحياة.
والأمر بيننا وبين يهود سافر كإشراق الصباح لا يغطيه شيء، ولا تعمى عن جلائه عين، فهو الحرب الضارية التي لا ترحم، فمن شك في هذا فإنما يشك عن دَخَل(2) وفساد لا عن يقين خطأ يلتمس فيه العذر، والحرب معنى معروف للبشر منذ كانوا على هذه الأرض، ولها أساليب لا يجهلها خبير بها ولا غير خبير، ومَن جهل هذه الأساليب أو تجاهلها أو دعا قومه إلى إطراحها والإغماض عنها فإنما يدعوهم إلى الهلكة والفناء والخزي وذل العصور والآباد، فكل كلمة تقال منذ اليوم في أمر هذه الحرب فهي إما تحريض على القتال، أو تثبيط عنه، وكل امرئ منا محاسب بما يقول علا شأنه أو سفل، فإن الحرب لا تعرف شريفًا ليس لسانه بشريف، ولا تتنكر لمغمور يضيء عنه بيانه أو عمله.
وقد قرأت في هذه الأيام الأخيرة وسمعت كلمات لا يرفعها أو يشفع لها أن يكون قائلَها فلانٌ أو فلانٌ، فإن قيادة هذه الحرب لن تكون لمن يهادن في الحق الأبلج(3)، أو يجامل في المحنة المهلكة، فمن ذلك أني سمعت الأئمة على منابر المسلمين تذكر الناس بأمر فلسطين وما حل بها وما يراد فيها، ثم تعقب على ذلك بتذكير الناس بأن في بلادهم مواطنين من يهود -هم كما يقولون- أهل ذمة، لهم ما لأهل الذمة والمعاهدين من الأحكام في ديننا ودين نبينا، وقرأت أيضًا بيانًا من «هيئة وادي النيل» أذاعه رئيسها سعادة محمد علي علوبة باشا يقول لنا فيه: «إن لكم مواطنين من اليهود في مصر، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، وقد شاعت حولهم شائعات السوء فقيل: إنهم يمدون الصهيونية بالمال، وإنهم يضنون بمالهم فلا يساهمون معكم في رد عدوان الباغين، ونحن على يقين من أن إخواننا اليهود في مصر -وهم أصحاب الملايين- سيبذلون من مالهم للعروبة في محنتها كما تبذلون، وسيسارعون إلى تكذيب هذه الشائعات ببذلهم وعطائهم لا بأقوالهم وتصريحاتهم».
ولست أدري ما الذي يحمل هؤلاء القوم على ركوب هذا المركب في تغطية عيون الناس عن أفاعيل يهود منذ كان لهم على هذه الأرض مكان يسرحون فيه؟ فإذا كانوا يريدون ألا تقع الفتنة بين يهود مصر وبيننا، فكفاهم أن يذكروا أن العرب والمسلمين منذ كانوا لم يضطهدوا هذا الجنس من خلق الله إلا عقابًا لشيء جنته أيديهم، ثم يتركونهم وادعين لا يمسهم شر ولا عنت تحت ظل هذه الدول العربية والإسلامية، وإذا كانوا يريدون أن يفتوا الناس بأن يهود هم أهل ذمة لهم ما لأهل الذمة في أحكام الإسلام، فقد أخطأوا، ولا يستطيع متأول أن يتأول على دين الله أن هؤلاء اليهود أهل ذمة أو معاهدون كما توجب أحكام الإسلام لمن يوصف بهذه الصفة، وكان حسب هؤلاء أن يأمروا الناس بالتطوع للقتال والتبرع بالمال، وأن يصفوا لهم هذه الحرب الملعونة التي تشنها علينا العصبية الصليبية من أوربة وأمريكا، وأن ينفضوا قلوب الناس حتى يبتدروا مراكزهم في صفوف المقاتلين، فإن الحرب كما يقولون جدها جد وهزلها جد، فإذا كان هذا العبث مقبولا يومًا ما، فإنه اليوم فت في عضد الأمة المسكينة التي أحاطت بها الأمم لتأكلها «أكل الضروس حلت له أكلاؤه»(4)، فليقلع هؤلاء الواعظون عن عظة فيها الهلاك لأقوامهم، والذل لأبنائهم، والعبودية لبلادهم.
أما النداء الذي أذاعه علوبة باشا فقد أفزع كل حريص على خير أمته وبلاده، وكيف لا يفزع امرؤ يقرأ نداء موجهًا إلى عامة الشعوب العربية ثم شعب مصر خاصة وفيه هذه الثقة المطلقة بأن اليهود برآء من كل قادحة تقدح في إخلاصهم للقضية العربية! وفيه هذا اليقين الذي لا يتزلزل بأنهم سوف يجودون بأموالهم وأنفسهم في سبيل فلسطين العربية! ويأتي هذا البيان من رجل معروف الاسم، مشتغل بالقضايا السياسية والوطنية والعربية، ينظر إليه الشباب نظرة التوقير والإجلال لما يقول.
ونحن لا ندري هل وقف على شيء غاب عن الناس جميعًا وعرفه هو، فاستيقن أن ظاهر أمر يهود مصر غير باطنهم، وأنهم إنما يرسلون الأموال إلى الصهيونية ذرًّا للرماد في عيون الناس، وأنهم يتولون تهريب الأسلحة إلى الصهيونية رحمة بالعرب ودفاعًا عن قضيتهم، وأنهم يجمعون الشبان اليهود ليبثوا فيهم الدعوة إلى الهجرة إلى أرض الميعاد، ليدخلوا فلسطين ويكونوا عونا للعرب على إخوانهم من اليهود الصهيونيين!
حسبكم أيها الساسة القدماء! لئن ظننتم أنكم بأمثال هذا الكلام تستطيعون أن تلينوا الصخر من قلوب يهود مصر حتى ينحازوا إليكم، ويكونوا لكم أعوانًا على أبناء جلدتهم، فقد خاب ظنكم وخاض بكم الأباطيل المركومة، إنه ما من يهودي على ظهر هذه البسيطة إلا وهو صهيوني متعصب يخفي تحت ذلته ومسكنته غوائل الغدر والفتك، إن يهود العالم على قلب رجل واحد: يريدون أن يلتهموا هذا الشرق العربي كله، ويكونوا سادته وكبراءه والحاكمين بأمرهم في كل ثنية من ثنايا أرضه، لا نقول لكم: اقرؤوا كتب الصهيونية لتعلموا، بل اقرؤوا كتابهم الذي يدينون به، واسترقوا السمع فيما يجري على ألسنتهم وهم يتخافتون بينهم، وادخلوا بِيَعَهم، وانظروا في وجوههم، وتفرسوا في سمتهم وشمائلهم وحركاتهم، فيومئذ تعلمون أن تحت هذه الصفحة البريئة المتلألئة أخطبوطًا سفاحًا قد قتله الظمأ إلى دمائكم ولوَّعه الشوق إلى فرائس أموالكم وبلادكم، وليس بسياسي من لم يعرف عدوه معرفته بنفسه التي بين جنبيه، وليس بسياسي من كتم هذه المعرفة عن قومه في ساعة القتال والحرب، ولا تظنوا أن يهود تنخدع لكم عن أنفسها حتى تنالوا منها شيئًا تعلم أنه خذلان لدينها وعقائدها وأهوائها ومطامعها منذ كان لهم في هذه الأرض مجال يتحركون فيه.
___________________________
(1) هذا مَثَلٌ، يُضْرَب لمَن قَصَّر فيما أسند إليه، وهو يُقْرَن غالباً بشطره الأول وهو: أَوْرَدَها سَعْدٌ، وسَعْدٌ مُشْتَمِلْ.
(2) الدَّخَل والفساد بمعنى.
(3) الأَبْلَج: الواضح، وأصله الأبيض.
(4) الضَّرُوس: الأكُول، الأكلاء: جمع كلَأ، وهو العُشْب.
المصدر: مجلة «الرسالة»، السنة الخامسة عشرة (العدد 756)، ديسمبر 1947م، ص 1423 – 1426.