بعيداً عن الشؤون السياسة وأحوالها المتغيرة والتحديات الجيوسياسية التي تمر بها المنطقة وستستمر إلى أن يقضي الله تعالى أمراً كان مفعولاً، ارتأيت أن أتناول موضوع الصفقة العملاقة «رأس الحكمة» التي تمت بين جمهورية مصر العربية ودولة الإمارات العربية المتحدة، خاصة أن هناك أخباراً تفيد بأن المملكة العربية السعودية، ودولة قطر، لديهما الرغبة أيضاً في إتمام صفقات مماثلة، هذه الصفقات -نسأل الله تعالى لجميع الأطراف التوفيق والسداد- تسمى في عالم المال والاستثمار بالصفقات «الميجا» (Mega Investment Projects)، وهي دلالة فنية واضحة تعكس حجم رؤوس الأموال المستثمرة.
سأتناول هذا الموضوع من جانب مهني فني بحت دون أي انحياز لطرف دون الآخر؛ لأن نجاح مشاريع مثل هذه -بإذن الله- سوف تنعكس بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وسيكون لها ارتدادات إيجابية على شعوب المنطقة، كما أنها من الممكن أن تكون بداية ونقطة انطلاق لتعاون إستراتيجي بين الدول العربية والمسلمة ليكون المستفيد الأول والأخير حكومات وشعوب هذه البلاد أولاً وأخيراً.
الأبعاد التي سأذكرها انطلاقاً من المعلومات التي قرأتها من المنصات الإخبارية وبعض التقارير الفنية غير المستفيضة بالتفاصيل، وعليه لا أدعي أنني أعرف التفاصيل، ولكن أتمنى أن تكون مشاركتي هذه من باب حرصي على الصالح العام والخاص لكل أطراف الصفقة.
أتمنى من الأطراف المعنية بإتمام وتنفيذ هذا المشروع الضخم أن تأخذ هذه النقاط بعين الاعتبار، فإذا تم الأخذ بها أساساً فبها ونعمة، فهو نوع من التذكير والتأكيد على ضرورتها، وإن لم يتم الأخذ بها فلعل المقال يساهم في لفت الانتباه لبعض الأمور التي أعتقد أنها مهمة بمكان أن يؤخذ ببعضها بما يتناسب مع أهداف الصفقة الكبرى.
قبل أن أشرع في كتابة النقاط أود أن أوكد أن هذه النوعية من الصفقات هي صفقات لها إيجابيات كثيرة جداً، ولا يشترط أن تكون ذات عائد مالي واستثماري مرتفع؛ وإنما لها انعكاسات كثيرة جداً على كثير من قطاعات الدولة؛ سواء الحكومية أو الخاصة على سبيل المثال وليس الحصر:
أولاً: هذه الصفقات ستساهم في إيجاد فرص وظيفية كثيرة مما ينعكس إيجاباً على معدلات البطالة.
ثانياً: ستساهم في تدفقات نقدية بالعملات الصعبة؛ مما ينعكس إيجاباً على سلة العملات الصعبة في البنك المركزي.
ثالثاً: تنشيط قطاعات كثيرة من السوق المحلية مثل البيع والشراء والخدمات والنقليات والفنادق والطيران والمقاولات والتغذية.. إلخ.
رابعاً: النمو الاقتصادي وما له من تبعات في زيادة مستوى دخل الفرد وقدرته الشرائية في السوق المحلية.
خامساً: تطوير وتمكين الكثير من رؤوس الأموال البشرية المحلية (المصريين) وزيادة خبراتهم العملية من خلال الاحتكاك مع خبرات جنسيات أخرى ومختلفة.
سادساً: زيادة الوعي لدى العاملين المحليين بأحدث أنواع التكنولوجيا المصاحبة خلال عمليات التنفيذ لهذا النوع من المشاريع (هندسية، تسويقية، مالية، بيئية.. إلخ).
سابعاً: تثبيت سعر صرف العملة بالاتجاه الإيجابي نتيجة الطلب المستمر على الجنيه المصري شيئاً فشيئاً.
ثامناً: إيجاد بدائل سياحية أخرى تواكب أذواق الجيل الجديد من المستهلكين المعروفين عالمياً في علم الاجتماع باسم «Generation Y»، و«Generation Z».
بعد أن تناولت مجموعة من الإيجابيات التي من المتوقع أن تصاحب هذه الصفقة ومثيلاتها بالمستقبل، سأتناول النقاط التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار أثناء إتمام وتنفيذ هذه الصفقة.
الأولى: التأكد والعمل على أن تكون العلاقة المبنية بين الطرفين علاقة قائمة على الشراكة المستدامة محددة الأركان والمسؤوليات، وليست إتمام صفقة بيع وشراء فقط، والسبب في ذلك ضمان تسهيل جميع الأعمال والإجراءات وتذليل أي معوقات قد تحدث أثناء عملية تطوير وتشييد المشروع التي بلا شك سيكون لها الأثر الإيجابي في تنفيذ هذا المشروع وإنجازه وفق الجدول الزمني المحدد وحسب الخطة والاتفاقيات المبرمة.
الثانية: يجب تأسيس كيان مشترك بين الطرفين، وهو ما يعرف في عالم الاستثمار والعمل التجاري العالمي والدولي «إس بي في» (Special Purpose Vehicle)، ويمكن لهذا الكيان أن يأخذ أي شكل من الأشكال التي من شأنها تثبيت وتأصيل القواعد الأساسية والمرجعية الحاكمة التي تنظم طبيعة العلاقة بين الطرفين والأطراف ذات الصلة.
الثالثة: ترتيب وتأمين قنوات التمويل المختلفة مسبقاً؛ وذلك لضمان وجود السيولة في حال احتياجها لاستكمال مرحلة أو بعض المراحل الخاصة بإقامة المشروع.
تأمين قنوات التمويل لا يعني بالضرورة استخدامها، ولا يعني الالتزام المسبق بدفعات نقدية مسبقاً، إنما هي الموافقة المسبقة من قبل الجهات التمويلية للدخول في عمليات التمويل بشتى أنواعها (يتم الاتفاق على طبيعتها وكيفيتها مسبقاً) في حال ظهور احتياج إلى سيولة نقدية معينة خلال عمليات التنفيذ للمشروع يتم استخدام هذه القنوات الموافق عليها المسبقة لضخ سيولة حينها، وهذا يعرف في عالم الاستثمار والتمويل «Line Off credit».
الرابعة: من المهم جداً تنويع مصادر تمويل رأس المال المطلوب، حيث يمكن لهذا المشروع أن يستفيد كثيراً بتنويع مصادر تمويل من خلال منتجات مالية محددة معروفة في عالم المال والاستثمار، على سبيل المثال وليس الحصر إصدار صكوك ذات عوائد مشجعة، كذلك يمكن تأسيس محافظ وصناديق مالية غرضها الأساسي توفير عمليات تمويل قصيرة المدة لفترة زمنية محددة تعرف في لغة المال والاستثمار بـ«البرج» (Finance)، كما يمكن طرح جزء من المشروع من خلال تأسيس شركة استثمارية محددة الأغراض مرتبطة ارتباطاً مباشراً في المشروع ذاته، ويفتح باب الاستثمار فيها للأفراد والشركات العالمية التي تراها فرصة استثمارية مواتية، وهي فعلاً فرصة جيدة في حال وجود ضامن للمشروع، ولا شك وجود مؤسسة مثل هيئة أبوظبي للاستثمار هي بحد ذاتها كافية، إضافة إلى ذلك الموقع الإستراتيجي للمشروع وحل التطوير.
الخامسة: يجب إعادة استثمار المبالغ المدفوعة لشراء الأرض من خلال تأسيس كيانات وشركات تشكيلية مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالمشروع حتى يتم من خلالها توظيف الكوادر الفنية والتشغيل للمشروع؛ مما سيخلق فرص عمل للمواطنين المصريين وشركائهم وسيضمن دخول هذه الأموال في شريان الاقتصاد المصري؛ وبالتالي تبدأ حركة الانتعاش من هذا المشروع لتنتشر شيئاً فشيئاً داخل السوق المصرية.
السادسة: إيجاد قنوات تخارج محددة مسبقاً يمكن لأصحاب رؤوس الأموال التخارج من استثمارهم بكل أريحية دون إحداث ارتباك في السوق، ويجب أن تدار من خلال كيان مركزي محدد ينظم هذه العملية (بنوك، صناديق سيادية، هيئات استثمار دولية.. إلخ).
السابع: إتاحة الفرصة للمشغلين العالميين الدخول في هذا المشروع حتى يكون هناك كثير من فرص العمل للمواطنين المصريين، على سبيل المثال وليس الحصر الفنادق العالمية، شركات تأجير السيارات العالمية، شركات اللوجستي العالمية التي تواجدها بأنظمتها ومعرفتها يساهم في تنفيذ المشروع وتشغيله بأعلى المواصفات العالمية، هذا التواجد سيعظم من قيمة الأصول المطورة ويعطي المشروع قيمة إضافية (Added Value)، وميزة إستراتيجية تنافسية (Strategic Compatitive Eage).
الثامنة: الابتعاد كل البعد عن عمليات المضاربة من خلال بيع وشراء أراضٍ لم تُطور، كأن يقوم أو تقوم جهة معينة بشراء مجموعة من الأراضي بسعر مخفض ثم تقوم بإعادة بيعها بسعر أعلى على اعتبار أنها شرت بسعر الجملة وباعت بسعر التجزئة.
يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار ومن الضرورة بمكان أن يكون البيع للمنتج النهائي بعد عملية تطوير العقار وتحويله من أرض إلى عقار مشيد بغض النظر عن نوع هذا العقار سواء كان منزلاً أو شاليهاً أو شقة.. إلخ.
هذا لا يمنع طبعاً أن تواكب عمليات التطوير منتجات مالية واستثمارية وتمويلية رديفة تقدم للمستثمرين والعملاء من خلال جهات مالية عالمية إقليمية ومحلية، ولكن يجب أن تكون محددة بآليات ومدد محددة المعالم.
التاسعة: يجب أن يكون هناك تشريع خاص لهذه النوعية من المشاريع، بحيث يتم تجاوز أخطار سعر الصرف بين العملة المحلية والعملات الصعبة، مثل الدولار أو اليورو أو الجنيه الإسترليني أو الفرنك السويسري، المقصود بذلك تثبيت سعر الصرف من خلال دخول جهة معتمدة من الطرفين تقوم بتثبيت سعر الصرف سواء كانت هذه الجهة حكومية مثل البنوك المركزية أو هيئات الاستثمار الوطنية، كما يمكن للقطاع الخاص أيضاً القيام بهذا الدور جزئياً من خلال أحد البنوك العملاقة التي تتعهد بتغطية هذا النوع من الأخطار لصالح المستثمر والمطور والعميل محل الشراء.
العاشرة: يجب أن يكون هناك تعهد بإعادة الشراء للعقار المطور بسعر مثبت من البداية حتى يمكن للمستثمرين التخارج من استثمارهم إن أرادوا ذلك، يتطلب هذا الموضوع إيجاد متعهد ذي ملائة مالية (Deep Pocket) يقوم بإصدار تعهدات إعادة شراء والمعروفة عالمياً باسم «Buy Back Commitment» من خلال مذكرة ثنائية معتمدة مدعومة من الجهات الحكومية الرسمية محددة السعر والمدة أو المدد.
عليه، يكون للمستثمرين قدرة على تسييل استثماراتهم بطريقة آمنة تمنع من خلالها عنصر الاستغلال أو المضاربة غير المشروعة الذي سيجعل الأسعار إما متضخمة؛ وعليه يكون العائد على الاستثمار التشغيل قليلاً الذي سيسب عزوف المستثمرين لشراء واقتناء المنتجات الجاهزة، أو سيجعل الأسعار تتدنى التي سيكون لها تبعات سيئة على المستثمر الأول، حيث إن تكلفة الاستثمار قد تفوق سعر البيع بعد الانتهاء من التطوير، وعليه يكون المستثمر خسر جزءاً من المبلغ المستثمر أساساً.
اللهم بارك لهم في صفقتهم هذه، وارزقهم الخير منها، واصرف عنهم شرها وشر ما يمكن أن يأتي منها، واجعلها فاتحة خير لأبناء البلدين؛ مصر والإمارات.
__________________
خبير التنافس الإستراتيجي.