هجمة شرسة تتعرض لها الأسرة المسلمة اليوم على كافة المستويات، ابتداء من الدفاع غير المبرر لعمل الأم وترك مهامها المقدسة في تربية أبنائها، ومروراً بترك الحبل على الغارب للفتيات في سن الزهور للاختلاط في المدارس وحرية استخدام الهواتف النقالة ووسائل التواصل الاجتماعي دون رقيب أو محاسب أو وضع بديل لملء أوقات فراغهن، وانتهاء بجملة من القيم البعيدة كل البعد عن مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ومحاولة غرسها عبر وسائل الإعلام وبرامج مشبوهة تضع الفتاة في ندية ممجوجة مع الزوج؛ فتزداد بشكل مخيف نسب الطلاق، مخلّفة وراءها أطفالاً لا حول لهم ولا قوة يلتقون بوالدهم في قاعات المحاكم، ويعيشون مع أُم تحتاج هي ذاتها لاستكمال عوامل تربيتها لتصلح لأن تكون أماً.
وإحقاقاً للحق، فإن تلك الإشكالية ليست وليدة اليوم، وإنما يعد لها منذ زمن بعيد حين فرغت المناهج الدراسية في المدارس والجامعات من المضامين التربوية واكتفت بالمنهج العلمي البحت، وتركت الجانب التربوي شاغراً، فصرنا نجد معلّمات ينقصهن التعليم، وطبيبات ينقصهن الضمير، وأمهات لا يؤمنّ بأن مهمة الأمومة تستدعي التفرغ الكامل لتنشئة جيل يمكن أن نعول عليه لبناء الأمة، وزوجات لا يدركن خطورة الدور الذي تؤديه بحسن تبعّل إحداهن لزوجها.
مفاهيم مغلوطة
ولستُ أدري مَن ألقى في روع ووعي النشء في العصر الحديث من الفتيات والأولاد أن الإسلام بما يحمله من مجموعة القيم الأخلاقية تتنافى مع الحرية الشخصية والسعادة التي يبحثون عنها، خاصة في فترات الشباب الأولى والمتوسطة، فتجدهم يبحثون عنها في أروقة أخرى، منها التبسط والانخراط في علاقات غير جدية على وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، واستهلاك المشاعر الإنسانية النبيلة في غير موضعها، حتى إذا جاء وقتها لم تجد لها موضعاً طبيعياً، وحدثت المقارنات بين الرفيق الشرعي وغيره لتكون دوماً في غير صالح الشريك ويبدأ الانهيار الأسري.
وخير معلم في هذا الخضم هو بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجاته أمهات المؤمنين رضوان الله عنهن، وكلهن نماذج يُحتذى بها في حسن التبعل وتربية الأبناء وحمل الدعوة وخير التعبد وحسن التلقي عن الله سبحانه وعن نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
والنموذج الأقرب لفتيات اليوم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقد تزوجها فتاة صغيرة، وكانت أحب نسائه إليه، عاشت معنى الزوجية بكامل فتوتها، من التدلل والحب والغيرة والسفر والقرب والمصاحبة والتنزه، تلك الممارسات التي تحلم بها كل فتاة في كل عصر، فهذه أمنا حبيبة رسول الله عندما كانت تروي عنه تقول: حدثني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مَن مِن نساء المسلمين اليوم حين تتحدث عن زوجها تقول: حبيبي، لتكون قدوة لابنتها أو لبنات المسلمين من بعدها إذا كانت معلمة بينهن؟! وإليكم دروس عائشة:
1- الغيرة علم وفن:
الاعتدال والوسطية في الغيرة ككل أمور ديننا يمكن أن تضفي على الحياة دفئاً ورونقاً وجمالاً، أو يحيلها ناراً وبُغضاً، وكل النساء تغار، ولكن لا بد من أن تكون هناك حدود لهذه الغيرة بحيث لا تصبح طوقاً يخنق الزوج وتجعله يفر منها فراراً، فكذلك كانت السيدة عائشة، فقد كانت تحب النبي صلى الله عليه وسلم وتغار عليه، بل كانت أكثر زوجاته غيرة، فعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلاً قالت: فغرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: «ما لك يا عائشة؟ أغرتِ؟»، فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟ فقال: «أقد جاءك شيطانك؟»، فقلت: يا رسول الله: أو معي شيطان؟ قال: «نعم»، قلت: ومع كل إنسان شيطان؟ قال: «نعم»، قلت: ومعك شيطان؟ قال: «نعم، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم» (حديث صحيح).
وهنا تكون حكمة الزوج وتتجلى في أعلى صورها عند الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فنجده يذكّرها بالله تعالى، وأنه لن يظلمها، فتصطبغ الحكمة ليس بالعنف وإنما بالحزم، فترتدع الزوجة وتتذكر وتفهم طالما أن الحياة كلها مرتبطة لله سبحانه، وطالما أن الرصيد بينهما يسمح، فحياتهما بداية مبنية على الصدق والثقة.
2- فن امتصاص الصدمات:
هو ما نسميه «فن إدارة الأزمات»، فليس مطلوباً من الفتاة أو الزوجة أو الزوج أن يخرج أحدهم عن طبيعته، وإنما إدارة تلك الطبيعة وتهذيبها بما يراعي ظروف الطرف الآخر لنحافظ على السفينة التي تقل الجميع، ولذا فقد استحقت أمنا عائشة وعن جدارة تلك المكانة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي قلبه، وحق لها أن تفخر بمكانتها تلك.
3- التدلل والتدليل:
عن عائشة رضي الله عنها، قلت: يا رسول الله، من أحب الناس إليك؟ قال: «ولم؟»، قلت: لأحب ما تحب، قال: «عائشة».
أتستطيعين، يا أختي، أن تتحدثي إلى زوجك بهذه اللهجة وهذا الدلال خاصة إذا فترت العلاقة بينكما وطغت عليها المادية العمياء وطالت غربة أحدكما عن الآخر؟!
وعن أمنا عائشة قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: «ما يبكيك؟»، قلت: سبتني فاطمة، فدعا فاطمة فقال: «يا فاطمة، سببت عائشة؟»، قالت: نعم يا رسول الله، فقال: «أليس تحبين من أحب؟»، قالت: بلى، قال: «وتبغضين من أبغض؟» قالت: نعم، قال: «فإني أحب عائشة فأحبيها»، قالت فاطمة: لا أقول لعائشة شيئاً يؤذيها أبداً.
4- لأحب ما تحب:
ثم هي تسابقه فتسبقه؛ أي أن الزوجين المشغولين بهموم الأمة يخرجان للتنزه وممارسة الرياضة والتسابق فتسبقه في المرة الأولى وينتظر عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى تأكل وتسمن فيسابقها مجدداً فيسبقها عليه الصلاة والسلام، فيضحك الحبيبان ويقول: «يا عائشة، هذه بتلك»، ثم مشاهدة الحفلات التي يقيمها الحبشة في الأعياد والمناسبات فتقف عائشة رضي الله عنها بين يدي الحبيب لترى وتشاهد الأحباش وهم يلعبون، ويسألها الزوج: «أشبعت؟»، فتتدلل وتختبر حبه وتختبر صبره عليها وتقول: لا، ويصبر عليها حتى تشبع وتطلب هي الانصراف وهو مفرغ نفسه الكريمة تماماً لها في الوقت المخصص لها، فهم أحدهما طبيعة الآخر وتعامل معه بما يتناسب مع تلك الطبيعة التي فطره الله عليها فيتجنبا بذلك حدوث التصادم الذي تنهدم معه النفوس والبيوت الآمنة.