تعاني المجتمعات المعاصرة أمراضاً اجتماعية تكاد تفتك بوجودها وتمزقها إلى مجتمعات متناحرة؛ ولعل أبرز تلك الأمراض «العنصرية».
وتعد ظاهرة العنصرية من أعقد المشكلات الاجتماعية التي ما زالت تؤرق أفكار البشرية منذ قديم الأزل، وقد تركت جروحاً عميقة في تاريخ الشعوب والقوميات، وأصبحت تستغل في إثارة الحروب والنزاعات فيما بينها بما يهدد السلم المجتمعي والإنساني.
العنصرية.. المفهوم والبواعث
تعددت التعريفات لمصطلح العنصرية، ومنها ما برز على أنها التمييز بين الناس على أساس عنصرهم أو أصلهم أو لونهم أو جهتهم ومعاملتهم على ذلك الأساس.
وهناك من عرفها كنوع من الاستعلاء النابع من شعور فئة بأنها عنصر سيد ثم ترجمة هذا الشعور إلى واقع سياسي واجتماعي واقتصادي.
يقول المفكر الإسلامي د. محمد العوضي، في حلقة بعنوان «فيروس العنصرية»: إن الإنسان يولد إنساناً نقياً على الفطرة لا يولد عنصرياً، إنما ينمَّى ويغذَّى بالكراهية من بيئته ومحيطه؛ من الأسرة، ثقافة المجتمع، توجيه إعلامي، أيدولوجيات غالبة، سياسات حاكمة.
ويضيف أنه رغم بداهة تكريم الله لبني آدم التي أكدتها جميع الأديان السماوية وما اتفقت عليها من إعلائها قيم المساواة والعدالة في حق الأدميين، فإن آفة العصبيات المريضة ظلت حاضرة وبقوة في مجتمعاتنا الإنسانية.
ويشير إلى أن أهم ما يؤججها ويوسع رقعتها الصراع السياسي بين الدول الذي تجاوز ليشمل أمماً بأكملها؛ مما أحدث خللاً كبيراً، وعمَّق الجراح بين شعوب جمعتها مشتركات الجغرافيا واللغة والجيرة والقرابة والقومية والدين.
فيما يرى سعيد بن ميرزا النورسي، الملقب بـ«بديع الزمان»، أن العنصرية أو القومية السلبية فكرة أو توجه أو اعتقاد يدعو إلى الاعتداء على الآخرين، وتجاوز حقوقهم والتصادم معهم المؤدي بدوره إلى الدمار والهالك، ثم إن هذا الفكر يؤدي إلى الشرك بالله، ويشير إلى حقيقة العنصرية والقومية التي هي محاولة الجماعات التي تملك النفوذ والقوة وإحكام سيطرتها، وفرض تميزها على الجماعات المستضعفة، ولو تطلب ذلك استخدام القمع والعنف.
وذكر القرآن الكريم أن أول جريمة حدثت في تاريخ البشر عنصرية إبليس مع آدم عليه السلام في مسألة رفض السجود له، فالشيطان كما تروي الآيات رفض السجود لآدم ليس لأنه لا يحبه أو لأن بينه وبين آدم عداوة أو خلافاً؛ بل لأنه يرى أنه أفضل منه، وأن عنصره أعظم من عنصر آدم، قال تعالى: (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) (ص: 76).
ويؤكد النورسي أن البلاد الأوروبية مصدر الفكر العنصري، وأن الهدف من بث هذا الفكر بين المسلمين؛ تمزيقهم إلى قوميات متناثرة حتى تسهل السيطرة عليهم، بل إنه يرى أن الهدف الرئيس ابتلاع الأمة حتى لا يبقى لها وجود على سطح الأرض، وهذا الذي يسعى إليه الغرب، يقول: «ولقد نظرت -منذ السابق- إلى القومية السلبية والدعوة العنصرية نظرة السم القاتل؛ لأنها مرض أوروبي خبيث، وذلك حسب الأمر النبوي الجازم بأن الإسلام يجُبّ الجاهلية، ولقد ألقت أوروبا بذلك المرض الوبيل بين المسلمين؛ ليمزقهم ويفرقهم شذر مذر ليسهل عليها ابتلاعهم قطعاً متناثرة.
أضرارٌ على الفرد والمجتمع
للعنصرية آثار سلبية وأضرار عدة على الفرد والمجتمع، أهمها: شعور الفرد بالوحدة والعيش في عزلة عن المجتمع، وتفكيك الروابط والوحدة المجتمعية، وزيادة منسوب الاحتقان والنزاعات في المجتمع، وتفشي مظاهر الكره والحقد وغياب حالة التسامح والانسجام بين مختلف الأطياف والأطراف، وتعثر مسيرة التنمية والازدهار، وتؤثر على إنتاجية بعض المجالات كالإسكان، والرعاية الصحية، والعدالة الاجتماعية، والتعليم، إضافة إلى تقليص فرص بعض المجتمعات في مجالات متعددة، فمثلًا العائلات المكونة لمجتمعات صغيرة التي تعيش في أحياء منعزلة، تعاني من إمكانية محدودة للحصول على فرص عمل ورعاية صحية جيدة.
كيف عالجها الإسلام؟
تعد العنصرية من آثار الجاهلية الأولى، وقد حذر الإسلام منها والتفاخر بها والتعامل على أساسها، ودعا إلى نبذ كافة المظاهر المؤدية إليها، وقد كان مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم نقطة فارقة في التاريخ البشري، حيث أرسى قواعد التعايش والاندماج بين مختلف الشعوب والأعراق، وكان من ذلك ما عرف بالوثيقة المدنية آنذاك التي صنعت مجتمعاً واحداً، الكل فيه سواء، قام على أساس المواطنة، الوحدة في إطار التنوع، وضمنت الوثيقة لغير المسلمين أن يعيشوا بسلام وأمن مع إخوانهم المسلمين، وحين تعرَّض يهودي لاتهام ظالم بالسرقة نزل القرآن ليعلن براءته ويرفض موالاة الخائنين، قال جلَّ شأنه: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً) (النساء: 105).
ووضعت النصوص الإسلامية قيماً للتفاضل بين الناس أساسها تقوى الله لا اللون ولا العرق ولا النسب، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، وقد روى عبدالله بن عمر أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ خطبَ النَّاسَ يومَ فتحِ مَكَّةَ، فقالَ: «يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ قد أذهبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليَّةِ وتعاظمَها بآبائِها فالنَّاسُ رجلانِ: برٌّ تقيٌّ كريمٌ على اللَّهِ، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللَّهِ، والنَّاسُ بنو آدمَ، وخلقَ اللَّهُ آدمَ من الترابِ» (صحيح الترمذي).
ويرمي الإسلام الى تحقيق العدالة بين الناس جميعاً وليس لطبقة دون أخرى، فليس لأحد ميزة على الآخر إلا بالتقوى، وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ جابرُ بنُ عبدِاللهِ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَطَبَ أصحابَه في حَجَّةِ الْوَداعِ في أوْسَطِ أيَّامِ التَّشْريقِ -كما عِندَ البيهقيِّ في الشُّعبِ- فقال: «يا أيُّها الناسُ، إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ، ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى، إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ» (الدرر السنية).
وقال العلَّامة الراحل د. يوسف القرضاوي، في حوار له سابق لبرنامج «الشريعة والحياة» على قناة «الجزيرة»: إن الله سبحانه وتعالى اعتبر اختلاف الألسن والألوان آية من آياته، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (الروم: 22).
ويذكر العلَّامة القرضاوي أن عليّ زين العابدين بن الحسين كان يطوف بالكعبة ويبكي فرآه الأصمعي، وقال له: فيم هذا البكاء كله وأنت من أهل البيت الذين قال الله فيهم: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب: 33)، قال له: يا أصمعي، إن الله خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان شريفاً قرشياً، أما قرأت قول الله تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ) (المؤمنون: 101).
قوانين تجرّم العنصرية
يحتفل العالم في 21 مارس من كل عام، باليوم الدولي للقضاء على التمييز العنصري، ففي ذلك اليوم من عام 1960م وقعت مذبحة شاربفيل، حيث أطلقت الشرطة الرصاص فقتلت 69 شخصاً كانوا مشاركين في مظاهرة سلمية احتجاجاً على «قوانين المرور» في بلدية شاربفيل بجنوب أفريقيا، وكانت القوانين قد فُرِضت من قبل نظام الفصل العنصري في البلاد.
وقد سنت المنظمات الدولية قوانين تجرّم الممارسات العنصرية، في 21 ديسمبر 1965م أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية دولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، التي دخلت حيز النفاذ في 4 يناير 1969م.
وفرضت الاتفاقية على الدول الأطراف حظر التمييز العنصري والقضاء عليه بكافة أشكاله وبضمان حق كل إنسان دون تمييز بسبب العرق أو اللون أو الأصل القومي أو الإثني في المساواة أمام القانون والمساواة في التمتع بالحق في المعاملة على قدم المساواة أمام المحاكم وجميع الجهات الأخرى والحق في الأمان على شخصه وفي حماية الدولة له من أي عنف أو أذى بدني، والحق في مباشرة الحقوق السياسية والحقوق المدنية الأخرى، ولا سيما الحق في حرية الحركة والإقامة، والحق في مغادرة أي بلد بما في ذلك بلده والعودة إلى بلده، والحق في الجنسية، والحق في التزوج واختيار الزوج، وحق التملك، وحق الإرث والحق في حرية الفكر والعقيدة والدين، والحق في حرية الرأي والتعبير، والحق في حرية الاجتماع السلمي وتكوين الجمعيات السلمية أو الانتماء إليها، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ولاسيما الحق في العمل وفي الحماية من البطالة وفي تقاضي أجر متساو من العمل المتساوي وفي نيل مكافأة عادلة ومرضية، والحق في تكوين النقابات والانتماء إليها والحق في السكن، والحق في التمتع بخدمات الصحة العامة والرعاية الطبية والضمان الاجتماعي، والحق في التعليم والتدريب، والحق في الإسهام علي قدم المساواة في النشاطات الثقافية، والحق في دخول أي مكان أو مرفق مخصص لانتفاع سواء الجمهور.
الدول الأكثر عنصرية
وفي دراسة أعدها موقع «بليونيرز نيوزواير» عام 2015م حول قائمة الدول الأكثر عنصرية في العالم، كشفت عن تصدر أمريكا القائمة لوجود تمييز واضح بين البيض والسود، فضلاً عن وجود تمييز ضد الأشخاص الذين ينتمون لجنسيات مختلفة من المهاجرين واللاجئين.
ومن ضمن الدول العنصرية التي أشارت إليها الدراسة ما تسمى بـ«إسرائيل» هذا الكيان الصهيوني؛ وذلك لما يرتكبه من مجازر بشعة بحق الفلسطينيين والعرب واحتلاله الأراضي الفلسطينية وطرد أهلها منها بالقوة.
_________________________
1- مجلة جامعة الشارقة، مفهوم العنصرية ومرتكزات علاجها في كليات رسائل النور بديع الزمان سعيد النورسي، عماد الشريفين.
2- جامعة العلوم الإسلامية الماليزية، آفة العنصرية- المسببات والحلول دراسة تحليلية في ضوء السنة النبوية، د. سامر سمارة.
3- برنامج الشريعة والحياة، موقف الإسلام من التمييز العنصري، د. يوسف القرضاوي.
4- كتاب التفرقة العنصرية، محمد عاشور.
5- فيروس العنصرية، د. محمد العوضي.
6- إسلام ويب، موقف الإسلام من العنصرية.
7- إسلام أون لاين، الإسلام ونبذ العنصرية.
8- موقع د. طارق السودان، ما هي العنصرية وموقف الإسلام منها؟
9- الأمم المتحدة، الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري.
10- جريدة الشرق القطرية.